زهد شربل وزهد العائلة

المطران يوسف سويف

لقاء المجموعات مع سيادة المطران يوسف سويف السامي الإحترام - تموز 2019

 

هناك عاطفة غير إعتيادية من كافة اللبنانيين، مسيحيين وغير مسيحيين، تجاه القديس شربل، وأعتبرها من علامات عناية الله في لبنان .

لم يستطع شخص أن يجمع كما جَمَع مار شربل في لبنان. لقد أطلق البابا يوحنّا بولس الثاني مقولته الشهيرة "أن لبنان أكثر من وطن هوَ رسالة". على المستوى البشري، صار إخفاق في تحقيق هذه المقولة، ولكن على مستوى عناية الله، صار توحيد لرسالة لبنان، وعند كافة  طوائفه، من خلال هذا القديس العظيم. جميعنا، في جولاتنا الرسولية العالمية، عندما نقول أننا من  لبنان يقولون: "يعني من وطن مار شربل"

وهذا كله من ثمار هذا الإنسان الذي زهد في الدنيا، وتحرّر، بنعمة الرب، وبقوة الروح القدس، من كل قيود تربطه في هذه الأرض كي يكون متحداً إتحاداً كاملاً بالله.

دبّر الله  بعنايته ومشيئته أن يختم حياة مار شربل بهذه الصلاة: 

"وحّدتَ يا رب لاهوتَك بناسوتِنا، وناسوتَنا بلاهوتِك، حياتَك بموتِنا وموتَنا بحياتِك، أخذتَ ما لنا ووهبتَنا ما لكَ، لتحِييَنا وتخلّصَنا، لكَ المجد إلى الأبد." صلاة رائعة فيها تجسُّد الله، فيها فداء، فيها موت، فيها قيامة، فيها هدف الله للإنسان الذي هو "لتُحيينا وتخلّصنا".

صلّى شربل هذه الصلاة وحوّلها إلى مشروع حياته. أصغى بعُمق، واستجاب إلى صوت الرّب الذي يدعوه إلى أن يكون واحداً فيه ومعه.

هذه  الدعوة موجّهة لكَ كمعمّد، ولكِ كمعمّدة، ولكلّ مسيحي ولكلّ عائلة.

الكنيسة في الشرق وفي العالم كلّه، تستمتع اليوم بحياة رجل لم يكتب ولا كلمة ولم يُكتب عنه إلا سطر واحد. عاش القديس شربل في صمت تام وهذا الصمت جعل العالم يتكلّم عن المسيح وعن عجائب الرّب من خلاله. وهوَ يساعدنا اليوم كي نشكر الله وكي نقرأ حياتنا ونقول: نحن أيضاً مدعوّون إلى القداسة.

وأنت، هل تستطيع أن تعيش هذا الزُهد وهذا التجرّد في حياتك؟

إذا بقي الإنسان متكبّراً وممتلئًا من ذاته لا يستطيع أن يتجرّد.

أول تجرّد هوَ التجرّد عن الذات، عندما، على مثال الإبن الضال، نتواضع ونُقرّ بِضُعفنا ومحدوديتنا ونعترف بخطيئتنا، وفي الوقت ذاته نشتاق ونرغب أن نتعرّف على المسيح ونلتقيه كما التقاه مار شربل.

هل نحن قادرون أن نتجرد ونزهد في هذه الدنيا على مثال شربل؟

لنكن صادقين، هذا صعب. عندما ننمو بالجسم والفِكر والعِلم ونبقى أقزام في الله يكون لدينا مشكلة أكيدة. والمشكلة تكون أقل عندما نسعى أن ننمو بتكامل بين حياتنا الإيمانية وحياتنا اليومية العملية والعائلية والمهنية. عندها، نسلك طريق القداسة، وهذا يتطلّب تخلّي وزُهد وتضحية، بعيداً عن اللامبالاة، ويتطلّب أيضاً تدريب، بدونه، نعيش الفوضى في حياتنا الداخليّة الروحيّة.

أمام هذا الواقع لدينا غذاء روحي وسماوي، لدينا القربان المقدس، لدينا الصلاة، والتوبة، والغفران، والصدقة، والتجدّد، والإتكال على العناية الإلهية. هذا هوَ سلاحي الحقيقي في المعركة، بإسم يسوع، للتغلّب على الخطيئة الموجودة فيّ وفي المجتمع.

نستطيع أن نقرأ هذا الموضوع على ضوء الفصل السادس من إنجيل متى.

 

  • الصلاة: "أمّا أنت متى صلّيت"... أدخُل إلى مخدعك وأغلق باب أذنيك وهمومك وإنشغالاتك أهواءك ورغباتك وشهواتك. أنت في لقاء مميّز، في لقاء مع الحبيب، هوَ وحده يملأ قلبك، ويصلّي الروح القدس فيك "بأنّات لا تُوصف". إنّها دعوة للزُهد من أجل عيش علاقة شخصية وجميلة مع الرّب من خلال الصلاة. وهذه الصلاة، ليست فقط لمار شربل والنساك والمكرسين، هي أيضاً للعائلة لأنّها هي أيضاً عائلة مكرسة.

 

  • الصّدَقَة: "لتكن صدقتك في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك"..     زُهد مار شربل لم يكُن حُبّاً بالزُهد. زُهدهُ كان مليئاً بالصّدَقة، التي قد يكون عاشها قبل دخوله الدير وفي المحبسة أيضاً من خلال الأخوّة الشاملة والتضامن الإنساني والروحي مع الإنسان المتألم. والزُهد لا يكون سطحياً، أنا زهدت كي أصِل وألتقي بالّذي من أجلِه زهدتُ في كلّ شيء.  

زُهد شربل في هذه الدنيا ليس فقط كي يلتقي الله، بل كما كان عنده هَمّ الله كان عنده أيضاً هَمّ الإنسان. لكي نكون شهوداً ليسوع المسيح يجب علينا أن نكون مع الله، وفي الوقت ذاته مع الإنسان، لأن يسوع المسيح هوَ إله وإنسان.

كما شربل الزاهد الصامت المُصلّي المُتضامن مع الناس، كذلك العائلة مدعوّة إلى عيش هذا الزُهد الصامت، المُصلّي، المتضامن مع الناس، ليس وفق النهج النسكيّ، بل وفق نهج  مسيحيّ عائلي مختلف، إنّما بالمضمون والجوهر والروحية ذاتها، من أجل هدف واحد هوَ الوصول إلى الآب من خلال يسوع المسيح.

 نحن بحاجة اليوم إلى عِيَل تعيش الزهد، تعيش البساطة، بساطة الإنجيل.

أصبحنا نعيش اليوم في تسطّح روحي واجتماعي يطال حياتنا وأفكارنا. أنظروا كيف نعيش؟ مَن يسأل عن الإنسان قبل أن يسأل عن الأمور الأخرى للأشخاص الذين هم ضمن  مسؤوليتي... أنا كمطران، أنا كأب، أنا كأم؟  هناك أزمة، كيف نواجهها؟

نواجهها بـ "وحّدت يا ربّ لاهوتَك بناسوتِنا"، نواجهها بالتجسّد، لو لم يكن في هذا الكون إلاّ شخص واحد لكان الله قد قام بعملية الخلاص من أجله.

اليوم على مستوى فردي وعلى مستوى الأنظمة أصبح الإنسان رقم وسلعة. نحنُ، أبناء الكنيسة، مدعوّون أن ننظر إلى الإنسان بعيون يسوع المسيح، وكما ينظر البابا فرنسيس إليه، حتى نلاقي الإنسان ونرتفع إلى ملء قامة يسوع، إلى الكرامة وإلى الحُبّ.

كفانا تسطّحًا في حياتنا الروحيّة والإجتماعيّة، نحنُ مدعوّون أن "نذهب إلى العُمق" حيث الإنسان، كي نرتفع نحوَ الله، نحوَ يسوع المسيح الإنسان، نحوَ كرامة الإنسان.

 

  • في الغفران: في الصلاة الربية: "إن تغفروا للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي". لا يكفي أن أعيش الزُهد في الصلاة والصّدقَة، أنا مدعو أيضاً لعيش المسامحة. أكبر علامة تضعنا على المحك، ونفحص بها مسيرتنا، هي المغفرة. إن استطعت أن أغفِر، أحبّني الرّب ووضعني على الطريق الصحيح، وإذا كنت لا أستطيع أن أغفِر، يعني أنه ما زال أمامي طريق طويلة. والمغفرة تبدأ في العائلة، في عيلة مار شربل، في رعايانا، في مجتمعنا. وهذه موهبة عظيمة.

 

  • في الكنز الحقيقي: "إكنزوا لأنفسكم كنوزا ً في السماء". مار شربل عاشها مئة في المئة، أين هو كنزنا؟ مَن هو كنزنا؟ وحيث يكون كنزنا هناك يكون قلبنا.

 

  • الزُهد في الحواس: "العين سراج الجسد". إنها دعوة كي نعمل على أنفسنا وحواسنا  في شكل دائم.

 

  • في المال: "لا تعبدوا ربين  الله والمال". نرى اليوم عبادة المال، فهو يُسيطر على عقول الناس، الإنسان يبيعك بثلاثين من الفضة، يبيع الصداقة وعلاقة الإخوة، يبيعون بعضهم من أجل أمور تافهة.

 

  • "نشيد الزهد": يَختم متى الفصل السادس بنشيد رائع أسمّيه نشيد الزُهد: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا لأجسادكم بما  تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام. أنظروا إلى طيور السماء... أبوكم السماوي يقوتها... تأمّلوا زنابق الحقل... إن سليمان في كلّ مجدِه لَم يلبس كواحدة منها... فما أحراه أن يُلبسُكم يا قليلي الإيمان؟ وأبوكم السماويّ يَعلم أنّكم تحتاجون لهذا كلّه فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبِرّه، وهذه كلّها تُزاد لكم..."

هذا هوَ الزُهد، هذه هيَ عناية الله. أنا أُحبّ أن أستعمل كلمة "الله بيدبّر". هل نستعمل اليوم هذا التعبير في حياتنا الرعوية؟ تحية عيلة مار شربل "المجد لله" هل يوجد أجمل منها؟ نحن اليوم نعيش: "أنا أدبّر" هذا ما أضاع الإنسان وأضاع الكُلّ معه. عندما نزهد بشيء  في العالم، نَسعى إلى حياة أجمل كي نربح ملكوت الله، هذا الزُهد نعيشه في موت يوميّ كي نتجدّد كلّ يوم بالروح القدس حتى نلتقي في الآب مع يسوع ولكي نبتعد عن كلّ تسطّح.

الزُهد هوَ نهج حياة أسعى من خلاله كي أعيش ثمار الروح، ثمار الحياة المسيحيّة، كي أعيش ببساطة وعُمق، كي أعيش في حريّة أبناء الله، كي ألتقي بالإنسان الذي هوَ إبن الله المحبوب.