نسك ورسالة - مع الأب ميشال عبود الكرملي

الأب ميشال عبود الكرملي

  
السبت 10 شباط 2007 – رياضة صامتة للمجموعات
الأب ميشال عبود الكرملي – دار سيدة الجبل فتقا
 
ملاحظة: "هذا التعليم منقول عن التسجيل الصوتي، لهذا هو اقرب الى اللغة العامية"
 
سلام الربّ معكم،
(هذه الرياضة موضوعها مختلف عن العادة، هي إختبار روحي صامت، نُسكيّ من كلّ النواحي. موضوع اليوم تأملي خال من الأسئلة والمشاركات.)
بدايةً بما أننا سنعيش مع بعضنا البعض هذين اليومين، فأول ما نحن بحاجة لعمله هو أن نضع كل الماضي خلفنا، ونعيش الحاضر. في هذا الوقت سأطلب منكم بهذا الجو الصامت الذي نعيشه أن ندخل إلى ذواتنا، نغمض عيوننا ونبدأ بالتكلّم مع الله، مع نبع الحبّ، مع الخالق الذي خلقنا، نكرّس له هذا الوقت الذي فيه نحاول أن نغرف من كلمته، لتكون دليلنا: "أسلّمك ذاتي يا ربّ، أسلّمك الأشخاص الذين يسمعونك في هذا الوقت، أطلب منك أن تعطينا وتعطيهم روحك القدوس لكي يروي كلّ شيء جافٍ فينا ويليّن اليابس ويطهّر قلوبنا وحياتنا. أطلب منّك يا ربّ أن تعطينا هذه النعمة لكي نعرفك. لكَ المجد إلى الأبد، آمين."
 
تأمّلنا اليوم عن الحياة النسكيّة: عندما نتكلم عن الحياة النسكيّة نتكلّم عن شق من هذه الحياة؛ ولكي نفهمها نريد أن نعود لأصلها. كيف بدأت وكيف باستطاعتنا عيشها اليوم. بامكاننا التكلم عن النسّاك، وهذا مهمّ جدّا؛ عن القديسين، مهمّ أيضاً. والشهداء الذين قدّموا ذواتهم وحياتهم، ولم يخافوا أن يقدّموا كلّ ذاتهم من أجل يسوع المسيح، وهذا شيء رائع. كالذي يشاهد فيلما، يتأمل به، بدخل بِجوّه، يُعجَب بالمممثّلين، بِفكرة الإخراج، بالفكرة التمثيليّة، بالكتابة. ولكن: ينتهي الفيلم، يندهش لوهلة وننتقل إلى فيلم آخر يأخذ رهجه الأول ونعود إلى القصة ذاتها.
هذا الشي بامكاننا أن نعمله أيضاً مع أبطال عاشوا الحياة المسيحيّة بكلّ معانيها، وإنّما الفيلم لتقدر أن نعيشه علينا أن ندخل بجوّ الإخراج، والتمثيل، وتضع نفسك مكان المخرج، والممثل، وكاتب النصّ؛ ولا ننسى كم كلف من عناء، أيام، أشهر، سنين حتى وصل إلينا. بالنسبة لحياة يسوع المسيح، عندما نتأمّل بها، يدهشنا هذا الشخص العظيم، الذي فيه تغيّر الكون، الذي فيه تغيّر التاريخ، وليس بقوة السلاح والترهيب، إنّما بِنظرة منه: "إتبعني" فيتركوا كلّ شي ويتبعوه. هذا الشخص يسحرنا من بعيد. وإنّما من الصعب جدّاً، ومن السهل جدّاً، أن ندخل في قلبه. نستعمل عبارة فيلم: عبارات خارجيّة، لنقول حياة، حياة بكلّ معنى الكلمة.
لا نستطيع أن  نفهم الحياة النسكيّة من خارج إطار هذا الكتاب الذي اسمه الكتاب المقدّس والذي اسمه الإنجيل. هؤلاء الأشخاص الذين عاشو مع يسوع وقالوا عنه رأيناه بأعيننا، لمسناه بأيدينا، سمعناه بآذاننا، وهو الذي على بحيرة (جنّاسرة) قال لهم "أنا هوَ، لا تخافوا". على البحيرة رأوه كشبح وكأنهم نسيوا كل ما عاشوه معه. "أنا هوَ، لا تخافوا" وكمّلوا معه حتّى أقدام الصليب. رافقه يوحنا، هو الذي نقل لنا الإنجيل، هوَ الذي مال على صدر يسوع وقت العشاء السري، اختبر حبّه وصل إلى أقدام الصليب ومعه مريم المجدليّة التي هيَ أيضاً اختبرت حبّه، بعد أن كانت منغمسة في الخطيئة، اكتشفت رحمته ووصلت إلى أقدام الصليب، ومعهم أطهر الطاهرات التي هيَ أمّه مريم العذراء. هؤلاء الثلاثة على أقدام الصليب، عند الجلجلة، يمثّلون كلّ شخص يسعى لأن يسير وراء يسوع المسيح إلى النهاية. بطرس أنكره، ثم عاد يسوع ليذكّره بالنكران، "أتحبّني" "نعم" "أتحبّني" "نعم" "أتحبّني" "نعم"، وسلّمه رسالة "إرعَ خرافي، حملاني، نعاجي" كلّهم. وذكّره بالميتة التي سيموتها. يسوع صعد إلى السماء وأعطى الروح القدس للتلاميذ وانتشرت الكنيسة. وبدأ التلاميذ يموتون شهداءً من أجل يسوع المسيح.
يقول عنه سفر الرؤيا: "غسلوا حُلَلَهُمْ بدماء الحمل". هؤلاء وآخرهم البابا بنديكتوس السادس عشر الذي ذكّرنا: "أرضكم في الشرق مرويّة بدماء الشهداء، حافظوا عليها". هؤلاء الشهداء قدّموا حياتهم من أجل يسوع المسيح، ولم يخافوا أن يصيروا طعاما للأسود، لم يخافوا من شيء ابداً.
في عهد قسطنطين الملك حصل المسيحيون على الحريّة الدينية، وتوقّفت الإضطهادات ضد المسيحيّة. وقد كان الإستشهاد قبلاً كأنّه غاية كلّ شخص يحاول أن يتّحد بالربّ. كلّ أمّ، كلّ أب وقفوا ينظرون اولادهم ذاهبين للإستشهاد، وقد كانوا واثقون بأن عندهم وطن ثان أسمه الوطن السماوي.
وتوقّفت حالة الإستشهاد في المسيحيّة ولكن بقيَ أشخاصاً كثيرون أرادوا أن يهبوا ذواتهم للرب، ومن المؤكد انهم لن يقتلوا أنفسهم لأن القتل مرفوض في المسيحيّة. فكانت حياة أخرى واستشهاد من نوع آخر. بدأها القديس أنطونيوس الكبير بأن أعطى كلّ حياته قلباً وقالباً للربّ، ترك كل شيء وذهب إلى الصحراء ليعيش كلياً للربّ. التقى الأب بولا ويدعى بولا ويعنى غابة Paola. هكذا بدأت حياة النسّاك، أو الحياة النسكيّة، ترتسم بطابع معيّن بدأ ينتشر في مصر، ثمّ ينتقل إلينا، في نواحي سوريا، وبعدها أتى سمعان العاموديّ وغيره، ثم القديس مارون، على جبل قورُش يتبعه يعقوب القورُشي تلميذه... كلّ هؤلاء عاشوا في ذلك الوقت بما يسمى الحياة النسكيّة.
إنّما هنا بتأملنا بأولئك الأبطال نريد أن نسأل كيف نعيش نحن؟ هم في الصحاري، ليس لديهم أولاداً، لا يشغل بالهم مستقبل عيالهم، هم تركوا كلّ شيء. بينما نحن المطلوب منّا أن نعيش في المجتمع، عندنا مسؤوليات، عائلات، مطلوب منّا أن نكون خميرة في مجتمعنا، في قلب وطننا.
إذاً السؤال المطروح هو كيف نعيس الحياة النسكية؟
 
هناك عدّة عناصر:
منذ مليارات السنين أوّل ما خلق الله الكون، خلق الهواء، ومن دون الهواء لا يعيش الإنسان. وخلق المياه، ومن دونها أيضاً لا يستطيع الإنسان العيش. وخلق الإنسان، له قلب ونفس وروح ومن دونهم لا يقدر أن يعيش. المياه والهواء والشمس وكلّ هذا الخلق لم يتغير منذ مليارات السنين وما زال الإنسان يتنفّسها ويشربها ويأخد نورها. للحياة النسكيّة العناصر نفسها. النساك لم كن لديهم شيء أكتر مما عندنا نحن، بل بالعكس، نحن لدينا اكثر وسنرى كيف.
الحياة النسكيّة أوّل ما بدأت، بدأت من أجل أحد ما، أحد ما يريد ان يكون بكليّته للربّ، يريد أن يصغي كلياً لإلهامات الروح القدس والله ما زال هو نفسه، لم يتغيّر. ما زال المسيح في الأمس واليوم وإلى الأبد هوَ هوَ. والروح القدس الذي يعصف في الكنيسة هو ذاته.
النبع الأول: كان النسّاك يتغذّون بِشيء اسمه القربان المقدّس، وكانوا يشتاقون لتناوله لغاية العام 1900 لأنه لم يكن هناك بعد مناولة يوميّة. كانوا يحلمون بتناول القربان المقدّس؛ هذا ما نعرفه من أحدث القدّيسين، القديسة تريزا الطفل يسوع، التي كان عندها رغبة أن تتناول القربان المقدّس، وبعدها سمح البابا بيّوس التاسع عشر وبناءً على هذه الرغبة وعطش النفوس إلى القربان المقدّس، بالمناولة الأسبوعيّة ومن ثمّ المناولة اليوميّة. هؤلاء النسّاك كانوا يعيشون من هذا النبع الذي هو القربان المقدّس.
النبع الثاني: النساك لم يكن عندهم حياة مار شربل ليتأمّلوا بها، ولا حياة حياة القديس أوغسطينوس، ولا تعاليم توما الأكويني. كان عندهم فقط الكتاب المقدّس. وعليه بنى كل معلمي وآباء الكنيسة تعاليمهم التي هي أساس تعاليم الكنيسة. هؤلاء النساك عاشوا كلّ حياتهم انطلاقاً من الكتاب المقدّس وكانوا يردّدون مع المزمور: "كَلَّتْ عَيْنَايَ مِن تَأَمُّلِ كَلِمَتِكَ". كانوا يستعملون كلمة "إجترّ"، وهو تعبير لطريقة أكل بعض الحيوانات... فكانوا وكأنهم يجترون كلمة الله في حياتهم وأيضاً كما يقول المزمور: "هزيز الربّ يهتزّ".
 
تعدّدت أنواع الحياة النسكية، نعدد البعض منها:
- سمعان العاموديّ الذي صعد وعاش على رأس العامود، تنسّك هناك، ولم يعد ينزل، فكانوا يصعدون له الطعام، وكان هدفه أن يكون قريباً من السماء والترفّع عن دنيويات العالم. وقد خافت السلطة الكنسيّة أن يزيح عن الخطّ لكن بعدها تركته لما رأت فيه من عجائب.
- نوع آخر من النساك عاش في البراري، لا يأكلون إلاّ الأعشاب وذلك لكي ينحنوا دوماً، لأنهم حسب رأيهم لا يستحقون أن يرفعوا نظرهم إلى فوق.
- بعض النساك عاشوا نصف عراة، أي أنّهم ائتزروا بمنديل فقط تشبّهاً بيسوع المصلوب على الصليب. لم يرغبوا أن يكتسوا كل حياتهم رغم صعوبة الطقس.
- بعد كل هذا ظهر اشخاص نظّموا الحياة النسكيّة، منهم القديس أنطونيوس الكبير، بعده بنديكتوس، ثم كثيرين، مثل باسيليوس وهؤلاء أطلقوا على الحياة النسكية اسم الحياة الرهبانية. عاشوا جماعات يسعون معاً إلى هدفٍ واحد ألا وهو العيش كلياً تحت نظر الربّ.
- في الحياة النسكيّة اليوم التي يعيشها نسّاكنا، مثل الأب خوند والأب شينا والناسك داريوس، لم يختاروا النسك لأنهم لا يقدرون على العيش مع الرهبان بل اتّبعوا دعوتهم الخاصة في عيش النسك. -- ليقدر الإنسان ان يكون ناسكاً هناك قوانين اليوم عليه اتباعها. اولاً لا يحق له إذا كان دون ال35 عاماً، ثم يجب ان يكون قد أمضى على الأقل بين 7 و 10 سنوات في الحياة الديرية، وعليه أن يتمتّع بصحة جيدّة لكي يقدر على خدمة نفسه، ولكي يقدر على السهر كي لا يقع في التجربة. "الروح قوية أمّا الجسد فضعيف".
قديماً في الكنيسة تأثروا في الفلسة، ولم يفهموا كيفيّة السيطرة على الجسد، فظنوا أنّه بالألم يرضون الله. بعدها فهموا انّ الربّ يسوع قال "إحمل صليبك واتبعني" لم يقل "إحمل صليبي واتبعني"، ففهموا أن لكلّ إنسان صليب؛ وأنه ليس بالعذاب ينال الإنسان الخلاص. فالسماء في داخلك وإذا كنت تفتّش عن الله خارجا عنّك لن تجده كل حياتك. ومن هنا قال القديس يوحنّا الصليب، بصعودي إلى جبل الكرمل لا آخذ معي شيئاً، أصعد لأتخلّى، لا لأرى العالم من فوق بل لأتّحد مع الربّ وعندها سأرى الأمور كم هي صغيرة.
ويوصينا هذا القديس، أنّه في الحياة النسكية علينا أن ننتبه إلى الإماتات المضلّلة. لأنه أحيانا أقوم بإماتات من أجل الإماتات، ويقول ان النفس تعيش في حزن وكآبة إذ لم تعرف كيف تقوم بالإماتات. يقول انه  قبل أن تتخلّى عن ضعفك وعن نواقصك عليك أن تتمسّك بالبديل، الذي هو يسوع، بكلمة ربّنا والأسرار. عندما اختبر حب الله أبدأ تلقائياً بالتخلّي عن كل شيء آخر. فالحياة النسكيّة هيَ المعرفة أنّ الخير الأسمى لا يأتيني من ماديّات إنّما من خير أسمى الذي هوَ الله.  
في الحياة النسكيّة تقدمة للربّ؛ هنا نفهم كلمة القديس بولس: "لست أنا أحيا، بل المسيح يحيا فيّ". في سَعْيي للعيش مع المسيح أعيش ما عاشه القديس بطرس. في اللقاء الأول غيّر له اسمه، من سمعان إلى بطرس أي صخر، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي. في المسيحيّة الذي يتعمّد يأخذ اسماً آخر. وهذا ما عاشه بطرس. وفي مسيرته كان بطرس يكتشف شخصيّة يسوع. ومنطقه البشري لم يقبل الآلام والصليب. فقال له يسوع "إذهب خلفي يا شيطان". وأنا أيضاً في مسيرتي للإتحاد بالربّ اتواجه بأمور عدة لا اقدر على فهمها ولا حلّها. لماذا الربّ يقبل بهذا، هل هذا مخططه، لماذا يموت قريبي، لماذا المصيبة في بيتي؟... لا أفهم وأقول مع بطرس حاشى لكَ يا ربّ، وكأنني أقول له لا اريد أن يتحقق ملكوتك في مسيرتي معك. في قلب الجماعة أتحمّس كما تحمّس بطرس؛ وعندما مشى الربّ يسوع على المياه قال بطرس "إن كنتَ أنتَ هوَ، فمُرني أن آتِ إليك ماشياً على الماء." أجابه "تعال" ومشى ولكن عندما قويت الريح خاف وأخذ يغرق. فصرخ "نجّني يا ربّ" مدّ يسوع يده وأمسكه. بطرس كان "آتياً نحو يسوع" ونحن في مشوارنا صوب الربّ تيارارت كثيرة معاكسة ستكون لنا بالمرصاد.
إذاً الناسك لا يعرف الراحة، يحارب كثيراً، وغالباً ما يكون "أعداء الإنسان أهل بيته". فيشَكَك به وبصدقية حياة الروحية. الذي يريد السير نحو يسوع، تقوى عليه الأمواج، وعليه أن يسير عكس التيار، يقول البابا يوحنا بولس الثاني "لكي نصل إلى لنبع علينا أن نسير عكس النهر فنصل إلى النبع". هكذا بطرس عاش الحماسة "لو كلّهم تركوك أنا لا أتركك". ونحن أيضاً في اوقات ما، كرياضة روحيّة نعد الربّ بأشياء كثيرة، وبأن لن نعود أبداً إلى الخطيئة.. ثم أسمع الربّ يقول لي كبطرس، "قبل أن يصيح الديك، سوف تنكرني ثلاث مراّت". وبعدها يكون اللقاء الجميل الدي يعيشه النسّاك: نظرة يسوع "ينظر إليّ وأنظر إليه". وتصبح نظراته نور تُضيءُ ظلمتي. وكلّما اقترب نوره منّي، كلّما صرت أرى هفواتي، كلما اقترب النور أرى أصغر الأشياء التي لم أكن أراها قبلاً.
ما يعيشه النسّاك هوَ النظرة، نظرة بين محدوديّة الإنسان والله اللامتناهي. هذه النظرة عاشها بطرس، بعدما انكر الرب، فتذكّر عندئذٍ خطيئته، وبكى بكاءً مرّاً. نرى في الحياة النسكية أيضاً موهبة الدموع، تكون في حالة روحيّة معيّنة، لا نطلبها ولا نرفضها. هي أحياناً دموع الغبطة أو دموع الندامة أو دموع الفرح.
من بعد قيامة الربّ، لم يلُم بطرس كما نلوم ونعاتب نحن بعضنا البعض، إنّما ذكّره بعهد الحبّ "بطرس، أتحبّني؟ أتحبّني؟ أتحبّني؟". الله لا ينظر إلى خطيئتنا، ينظر إلى إيماننا، والنساك وهم يتعرّفون على سرّ الله فيهم، يكتشفون رحمته الكبرى. لكنهم لا يعيشون الحسرة بسبب خطيئتهم، يعرفون ضعفهم ولا يقولون "حاشى لي أن أخطئ". يعرفون انهم ليسوا ملائكة، أنهم بشر، ويتذكرون أن الله أتى ليخلصهم. في الحياة الروحية يتكلم يوحنا الصليب عن "الكبرياء المزيّف" أي عندما أرفض الضعف، أرفض سقوطي في الخطيئة. ولكن هذا لا يعني أن أستسلم للخطيئة، إنما أسير على الهدف الذي هو يسوع، أسير في الطريق كما ابراهيم "إذهب إلى الأرض التي أنا أريك" وفي طريقي هناك ما يسميه القديس يوحنا الصليب الليل المظلم، وهو معلّم في الكنيسة وفي الحياة الروحيّة وقد تحدث عن أن "الإنسان يعيش ليل الإيمان"؛ وإنّما تأتي كلمة ربّنا في المزمور "كلمتك مصباحٌ لخطايا ونورٌ لسبيلي". هذه كانت كلمة الله للنساك. يقرأون حياتهم على ضوء كلمة ربّنا في وحدتهم.
وأنا، ناسك في عالم اليوم، كيف أقرأ كلمة الله على ضوء حياتي؟
يقول باخ اللاهوتي وليس الموسيقي: "اقرأ الجريدة من جهة والكتاب المقدّس من جهة أخرى، وأقرأ كلمة ربّنا على ضوء الأحداث؟ كيف أقدر أن أعيش كلمته في هذا العالم؟ في هذا العالم اضطرابات، مصالح، غش وخداع... كيف أكون نور في عالم مظلم؟ كلمة ربّنا صالحة لكلّ جيل، تتأقلم مع كلّ جيل، هي ليست كلمة قديمة هي للحاضر ترفعني صوب يسوع المسيح.
هدف الحياة النسكية هي ان يتشبه الإنسان بكليته بيسوع المسيح. هو الذي نزل، صار متلي، أخد جسدي، عاش كلّ حياتي الإنسانيّة من الولادة والبشارة وإلى الموت، وأعطاني معنىً جديدًا، ولمّا قام من بين الأموات وصعد إلى السماء، أخد معه الإنسانيّة وهنا نفهم كلمة بولس "لِتَكُن عيونكم مشدودة نحو المسيح الجالس إلى يمين الآب". لم يعد مسموحاً أن تبقى عيوني في الأرض، صرت أنظر إلى فوق، صرت اقدر أن أعيش الحياة النسكية، اقدر أن أعيس الصحراء في قلب المدينة.
عشت خبرة في قدّاس لأحد النساك، الذي بعد 24 سنة نسك، طُلب منه وبحسب قوانين الرهبنة هناك، أن يحتفل بالقداس الإلهي ولما حان وقت العظة تحضّرت لأسمع جيداً، ولدهشتي كان كل ما قاله "نحن باحثون عن الله"، وتعجبت، بعد 24 سنة ويقول نحن نفتش عن الله، أوَ لم تجده بعد. فسألته بعد القداس، فأجابني "ومَن وجد الله، نحن نعيش معه، ولا نراه، من المؤكد هوَ معنا، وشبّهَ مسيرتنا مع الله كمسيرة الشعب في عبوره من مصر إلى أرض الميعاد. يمرّ بصحراء، يجوع، يتعب، يتذمّر... أراد أن يهرب من العبوديّة، لكنه تعب من الجفاف... ورافقه الربّ في الغيمة، وهذه الغيمة سمّاها الآباء الروحييّن بالعناية الإلهية.
في طريقة كان واحات راحة وصعوبات إلى أن وصل أرض الميعاد والتي هي الإتّحاد بالله. ونحن في حياتنا الروحيّة أحياناً تأتينا تعزيات... وأحياناً نلتهي، وأحيانا نتعرّض للتجربة، الشيطان يأتيك بالأشياء الجميلة. مثلاً يقع الإنسان في فخ الخلوة الروحية، فيذهب ليتعلم اليوغا، فيطلب راحته الروحية، فخ أن يبقى في راحته، ولا يبالي بكل مَن حوله. يتقوقع على ذاته، يكون ناجحاً في حياته ويبدأ بالسقوط، وهو يظن انه يتفرغ للحياة الروحية وينسى عائلته، زوجته وأولاده. القديسة تريزا الأفيلية، تقول لراهباتها انتبهوا، يأتي الشيطان ويلعب بِرؤوسكم، يقول لك اذهبي صلي خمس ساعات أمام القربان وأنسَي أختك التي تعمل بأمور كثيرة وبحاجة لمَن يساعدها. تقول لهم انتبهوا سترون يسوع في العمل. في كل هذا لا يجب أن ننسى أنّ الله محبّة.. ولا يجب أن أخاف وأثق أن يسوع معي. والآباء كانوا يعرفون "أنّ من له الله لا يخاف، فإذا كان الله معنا فمَن علينا".
من عناصر الحياة النسكية "التأمل في الجمال". أولاً التأمل بجمال الله، الناسك ومن يسعى إلى الحياة النسكية إنسان يسعى لإن يعرف الربّ. يسوع بصلاته الكهنوتية في يوحنا 17 يقول، "الحياة الأبدية هي أن يعرفوك، أنتَ الإله الحقّ ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح" وأول تأمل بالله هو في طيبته La bonté de Dieu، عندما أتعرف على طيبة الله أرى رعايته عبر الأجيال من تاريخ الخلاص العهد القديم إلى مسيرة الكنيسة وأرى أمانة الربّ لشعبه. أتأمل بعدالة الله العجيبة. الله لا يقاصص بل يسامح من يطلب منه السماح، وأتأمل بجمال الله فأرى غفرانه. هو الإله السموح، الأب، الذي استقبل الإبن الضال، هذا الشاب الذي كان يشتهي أن يملأ بطنه من طعام الخنازير والذي عاد إلى أبيه. هذه الأبوّة هي جمال الله. الإبن الضال كان ما زال بعيداً لما رآه والده، ركض نحوه، لم يقل له كم أنت وسخ نظفوه وبعدها تعال أضمّك. بل اقبل اليه من بعيد وقبّل عنقه طويلاً. أتأمل بجمال حنان الأب، بِجمال حنان الله وأنبهر؛ وأضع نفسي مكان الإبن الضال عند كلّ خطيئة، فأعرف أن لديّ آب حنون ينتظرني ويملأني.
الحياة النسكية هي الإندهاش بالله، والإندهاش يكون أمام كلّ شيء جميل، النساك والحبساء وغيرهم يعيشون حياة خارجية روتينية، مثلاً الإستيقاظ الساعة 4:00، الصلاه 4:30-5:30، 5:30 الذبيحة الإلهية، قراءة روحية، العمل بالأرض، وهكذا دواليك... اليوم التالي الأمور نفسها خارجياً. و إنّما داخلياً هناك لقاء متجدّد مع مَن هوَ متجدّد بحدّ ذاته الذي هوَ الله.
هذا لأن المحبة التي تجمع والشوق دائماً للقاء الربّ. كالعشاق. يشتاق الواحد للآخر في كل وقت. هل يا تُرى أشتاق لله؟ وهنا نسمع صاحب المزامير: "كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله". الله ليس مبدأ أضعه أمامي وأسير على قانونه. الله ليس قالباً أحاول أن اغمره لكي أقولب نفسي عليه، الله ليس كتاب وعليَّ أن أنَفّذ حرفيّاً ما كتب فيه. الله شخص حيّ دائماً أبداً. كلّ مرّة أعيش معه أتعرّف عليه فأندهش أمامه. لهذا، مع الجمال في الحياة النسكية هناك ما يسمّى بالإندهاش لأنه بالإندهاش تجدّد، ونظرة جديدة بِمَن نلتقي وهذا ما نتمنّاه دائماً أن يبقى في قلوبنا، في عيالنا، وعلاقاتنا. الإندهاش جميل جدّاً لأنّ فيه رغبة إلى إكمال المسيرة، إلى السير للأمام. وإنّما الإنسان الذي يعيش الروتين في حياته يعفّن في يأسه، يتقوقع ولا يعود يرى النور.
في الحياة النسكيّة أيضاً هناك ما يسمّى "النظرات"، ونظرة الله لي. الله لا ينظر إليّ نظرة المراقب لأخطائي، أو نظرة الناظر في المدرسة. ينظر إليّ لا ليراقبني إنّما نظرة رعاية. "الربّ راعيّ فلا يعوزني شيء"، ينظر إلىّ ليرى ما ينقصني؟ يريد الاهتمام بي، هو مسؤول عنّي... إذا كنّا نحن البشر، أباء وأمهات مسؤولين عن أولادنا، ونرعاهم هكذا، فكيف الربّ، وهو الذي يقول، "لو نسيت الأم رضيعها، أنا الربّ إلهك لا أنساك." وقال يسوع "إذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فكم بالأحرى أبوكم السماوي!" عليّ أن أفهم أنّ الله لا يريد سوى خيري. ونستغرب ونرى أن هناك مَن لا يجرؤ أن يقول "لتكن مشيئتك يا ربّ" لماذا؟ لأنه يخاف أن يأخذ منه أحد أفراد عائلته. لماذا الخوف يا أخي، ولماذا سيأخدهم الربّ. فيقولون مات فلان البارحة وهذه كانت مشيئة الربّ. هكذا نحن، كل شيء لا نجد له تفسيراً، نضعه في ذمة الربّ. لا هذا ليس صحيحاً، الله لا يريد هذا، الله لا يريد ان يموت أحداً. هو إله أحياء وليس إله أموات. هو يعطي الحياة، النور، ولا يعطي الظلام. كل خير هو منه. وهو لا يعطي إلاّ الخير. عندما افهم ان الله لن يعطيني إلاّ الخير أضع ذاتي تحت نظره، وأقول له "لتكن مشيئتك" وأثق بأنّه لن يتركني. القديسة تريزا الطفل يسوع تعطينا مثلا جميلاً وتقول للربّ أنها مثل الطفل يسير تحت نظر أبيه، وهو يسير يقع، وأبوه يتركه أحياناً ليقدر أن يقف لوحده، وإنّما يبقى قربه ساهراً عليه منتبهاً لمسيرته، وعندما يصل لهاوية يمسكه ولا يتركه يقع فيها. الربّ يسمح أحيانا ببعض النكسات في الحياة، وهذا لكي نقوى. إذا سلّمناه إرادتنا لا يتركنا نقع، يشدّنا. بِهذه النظرة نعرف أهميّة الالتزام وهذا شيء مهمّ في الحياة النسكيّة. في عالم اليوم، نعاني من الإلتزام. يسوع يعطينا الجواب، "طوبى للذي يثبت إلى المنتهى فذلك الذي يخلص". يتحمس الإنسان في البداية، لكن الحبّ لا يكون بالعاطفة يكون بالإلتزام. وهذا ما يعيشه النساك الذين ثبتوا حتّى آخر درجة من حياتهم. قرّروا التنسك، ثبتوا وعرفوا أنهم ثبتوا ليس لأنهم أقوياء بل لأن "أنا قوي بالذي يقوّيني" ونسمع كلمة يسوع "بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً" والغصن الذي لا يكون في الكرمة يقطع ويُرمى خارجاً، فأنا أستقى من النبع، الذي هو يسوع. والربّ يسوع هوَ في الكنيسة، عندما ظهر لبولس وقال له شاول شاول لماذا تضطهدني؟ بولس لم يكن يضطهد يسوع، بل كان يضطهد المسيحييّن، ففهم بولس أنّ بين يسوع وبين المسيحييّن إتّحاد كبير الذي هو الكنيسة. هي جسد يسوع السرّي. حياتي الروحية لا أقدر ان أعيشها خارج الكنيسة. النسّاك أشخاص مطيعين لقوانين، وبالطاعة تواضع، لهذا من أُسس الحياة النسكية الطاعة.
الأب شينا، الأب خوند، والأخ داريوس، كلهم نسّاك مطيعين لقوانين الكنيسة. وهنا نفهم كلمة القديسة تريزا الطفل يسوع "في قلب الكنيسة أمّي سوف أكون الحبّ". الحياة النسكية والروحية تكون في قلب الكنيسة وليس خارجا عنها. وفي تاريخ الحياة النسكية ظهر كثيراً من البدع... منهم من فهم الأمور على ذوقه فأخذوا يقلدون حرفياً بعض القديسين الأولين، وتعثّروا ومنهم مَن مات. بسبب بالكبرياء والتمرّد والادّعاء بأنهم يعرفون اكثر كيفية الحياة الروحيّة. لكن درب الحقيقة تمرّ وتبدأ بالتواضع، هذه كلمات القديسة تريزا الأفيلية.
 
خلاصة: الحياة النسكية اليوم هي التعرّف والعيش والإندماج والإتّحاد بِيسوع المسيح. ويسوع المسيح منذ ألفيّ سنة ما زال هو ذاته. في رياضات كهذة تسمى اوقات التجلي اختبر عيش الحياة النسكيّة.
بطرس عندما صعد إلى جبل التجلّي انبهر وقال للربّ "حسنٌ أن نبقى هنا، لو نصبنا ثلاث خيام، واحدة لك، وواحدة لموسى وواحدة لإيليا" ونحن كأننا أيضاً نقول اليوم، ما أجمل ان نبقى هنا، ونرتاح من هموم الدنيا. لكن يسوع قال لبطرس، إنزل إلى أورشليم، هناك ستلتقى بمختلف انواع الناس، ستتحمل الضيقات، انزل إلى العالم. يسمح الربّ لنا إن نعيش لحظات تجلّي وذلك لكي نستطيع العيش مع الله اينما كان لأنّ الربّ هوَ فينا. وهذه هي الحياة النسكية، إنّما أبقى أنا بحاجة لأوقات إختلاء تستطيع أن تغذّي روحي وتقوّي جسدي.
ونقطة أخرى مهمة وهي التغذّي الدائم بالقربان المقدّس. يسوع الذي كسر الخبز وقال لتلاميذه "هذا هو جسدي" ما زال إلى اليوم ينكسر على مذابح كنائسنا. والذي يرافق التغذي بالقربان المقدس وينظفنا، ويردنا لأصالتنا، لوقت معموديّتنا، هوَ سرّ الإعتراف، وعليّ أن أؤمن بعامل الوقت، الذي هو مهم جدّاً في الحياة الروحية لأنّي لن أصبح قديساً من أول الطريق عليّ أن انتظر. كالنبتة التي ازرعها، عليّ أن اصبر عليها كثيراً لتنبت، هكذا في حياتي الروحيّة، عليّ أن إحترم الروح الذي فيّ لكي أصل إلى ملء حياة المسيح وكما يقول بولس "أعرف الطول والعمق والعرض لسرّ المسيح". وهناك عندما إتّحد بيسوع أقدر أن أعرف "ما لم تره عين وتسمع به أذن".
الحياة مع المسيح لا يستطيع احد ان يعبّر عن مدى طيبتها، على كل واحد أن يختبرها، أن يذوق طعمها ليتعرف عليها. "ذوقوا وأنظروا ما أطيب الربّ". له المجد إلى الأبد، آمين.