مريم، ام الكنيسة - مع الأخت ماي انطوانيت سعادة

عاشت، تأملت واحتفلت بسرّ المسيح!
 

 

(ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو اقرب الى اللغة العامية).

 

1-من هي العذراء مريم؟

إنها ابنة من عندنا، من أرضنا، ابنة لها رائحة الأرض، الأرض الطيّبة التي خلقها الله؛ ابنة من بين بناتنا، امرأة من بين نسائنا. امرأة تحمل الإنسانية (الخليقة) في تكوينها.

مريم، امرأة مليئة بالدفء والإنسانية، بالحركة والحيويّة. كل شيء يتكلّم فيها، طالما إنها تحمل الكلمة، الحياة. مريم التي يتكلّم عنها الإنجيل هي امرأة من أرضنا،  تشبهنا، أو الأصحّ، إنها المرأة التي علينا أن نتشبّه بها. امرأة ليست كباقي النساء… هي جوهرة نادرة وزهرة  لطيفة بينهنّ، إنها السيّدة العظيمة، سيّدتنا سيّدة الجميع "ست الكل". امرأة فريدة، حضورها ومثلُها يساعد الرجال والنساء على السواء. لها وجه مشرق ومعاملة لطيفة ، طيّبة وحنونة . إذا كنتم التقيتم هكذا امرأة في حياتكم، فهنيئا لكم لأنّكم عرفتم بطريقة أو بأخرى مريم التي من أرضنا ، مريم التي اختارها الله لتحمل فرح السماء، حبيب الآب، ابنها يسوع…

 

2- مريم، رحابة وخصب

ان كرامة مريم وجمالها ينبعان من انفتاحها على السرَ الالهي. عرفت وهي تتأمََل في قلبها ان تستقبل الغامض والمستحيل… هكذا استطاعت أن تحوي من لا يُحْوى...

في البشارة: اسم مريم ظهر في البشارة. مريم ابنة حنّة ويواكيم (ها هي العذراء تحبل وتلد...) ابنة غير معروفة حتى الآن، تشبه كل بنات جيرتها... ومع هذا فمن خلالها سيأتي الخلاص. هذه الابنة العادية ستكون ابنة شعبها وامّاً لشعب جديد وذلك بسبب قدرتها الباطنية على الانفتاح على سرّ الله وقبوله حتى ولو لم تفهمه. سمعت... آمنت... لمست... وقالت نعم... لأنّه في العمق لا نرى الاّ بعيون القلب... والمهم والأساسي هو محجوب عن النظر...

 مريم فهمت بقلبها… إنّها لمدهشة حقّاً هذه الصبية! بأيّة شفافية استقبلت البشرى السارة، ذلك الحمْل الذي كان ممكناً ان يتحوّل الى مأساة...

قبولها بشرى الملاك يجعلنا نتلمّس العالم القديم الذي كانت تعيش فيه. حياتها الداخلية لم تبدأ مع زيارة الملاك لها. بفضل حياتها الحميمية مع السماء، أُرسِل لها ملاك الله. هذه الزيارة، كما يبدو، أتت تنسُج حياكة خاصة بينها وبين الله، إله آبائها، إله العهد والتوراة.

في الميلاد: مريم حملت بابن الله... وفي صمت أحشائها، حفظته، حملته، أحبّته، انتظرته، وعاشرته... اعتادت على حضوره... وعندما حان وقت ولادتها، انفصلت مريم عن ابنها أوّل مرّة لتضعه في مذود، لتسلّمه كغذاء للعالم... أعطت ابنها... أليس لهذه الغاية حملته؟ أعطته بالحب نفسه التي قبلته فيه.

اختبار مريم، بهذا المعنى، هو اختبار فريد... لأنّه ليس هناك سوى واحدة اسمها مريم. نعم مريم فريدة واختبارها فريد، وحيد وغريب. ولكن اذا كانت هناك امرأة واحدة عاشته أليس ذلك لتسمح لكلّ إنسان أن يعود فيعيش الحدث نفسه. أليس هذا موضوع إيمان وتأمّل لكلّ واحد منّا؟ ألا يريد الله، في مخطّطه (بالأمس واليوم وغداً)، أن يكون كلّ واحد منّا، رحابة، إصغاء، صلاة، شركة مع الله الحيّ، اليس ليأتي الله ويسكن فينا، فنحمله ونعطيه للعالم. أليست هذه دعوة كلّ معمّد؟ أليست هذه دعوة الكنيسة، هذه الدعوة المرتبطة بهويّتها ورسالتها؟ أليست الكنيسة هي تلك المرأة الملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً، كما في سفر الرؤيا؟

أليست تلك المرأة الحامل التي ستلد للعالم ولدأً يقود الأمم؟ (رؤيا 12/1-18)

 

3- مريم الناصرية، مريم امرأة باطنية:

في الناصرة:... أنّ مريم وجدت طريقة حياة تساعد على الحياة الخفية... ولكن أيّة حياة؟

الحياة الباطنية مع يسوع. إنّها حياة مليئة، مفرحة، حياة باطنية مكثّفة، حياة مغمورة بالحب والحضور، عاشت مريم مع ابن الله الذي صار ابنها، عاشت تحت نظره ونما تحت نظرها…إنّها لنعمة كبرى، إنّه لفرح عظيم!…

إسألوا الأمّهات بينكم، إسألوا مريم، لنسألً قلوبنا، نحن الذين تذوّقنا شيئاً من هذه الحياة الباطنية. لا شيء يساوي تلك الحياة، لا شيء...

4- مريم المؤمنة، ابنة ابراهيم:

على الطرقات كالرحّالة وكاللاجئة: " تركت" مريم مكان إقامتها ثلاث مرّات. تركت كما ترك أباها إبراهيم، وراحت تبحث عن مأوى. عاشت التخلّي واحتاجت للراحة والأمان... ولكنّها عاشت طاعتها لله وللبشر: حين ذهبت لتتمّ شريعة أوغسطس قيصر، وفي الطريق وضعت للعالم ابنها البكر... الله يزور الأرض… أرضه... جاء الى خاصّته ولكنّ خاصته لم تعرفه…لأنّها كانت مهتمّة بأمور هذا العالم... إنّه لألم كبير للأمّ كما للابن…! ولكن مريم "الرحابة" هي هنا... فالذين قبلوه أعطاهم أن يصيروا أبناء الله... بدل أن يستقبل الناس هذا الطفل بالهدايا، قدّم لهم هو هدية البنوّة... ما عساه أن يكون هذا الطفل، طفل تلك المرأة؟

 في أورشليم… وفي البحث عن الكنز المفقود: " يا بُنَيْ لما صنعت بنا ذلك؟ أنا وأبوك نبحث عنك متلهّفين" (لو2/48)

مريم التي ائتُمِنَتْ على كنز السماء والأرض، ها هي تفقده… إنّها متلهّفة، إنّها متألّمة… إنّها بحيْرة كبيرة وعجز! وحين وجدته، لم تفهم كثيراً ما حدث… ولكنّها حفظت كلّ شيء في قلبها… الى حين كشف السرّ.

على طرقات الجليل... على خطى ابنها: "أمّك وأخوتك في الخارج يسألون عنك" (لو8/19-21)

ها ان الطفل ينمو ويكبُر. مريم الأم التي حملت يسوع نراها تحوّلت الى تلميذة. أصبحت تلميذة ابنها وابنها أصبح معلّمها. هي التي ولدته، يلدها هو اليوم كمثال للتلميذ الذي يصغي لكلام الله ويسمح لهذه الكلمة أن تلده.

5- مريم – حضور، مريم أم وشاهدة:

في عين كارم، "تعظّم نفسي الرب"... عند خالتها أليصابات ... مريم الرشيقة... مريم انطلقت لتشارك نسيبتها في فرح هذا السرّ المشترك... لتشاركها فرحها، نعم، ولكن أيضاً لتخدم... هي الصبية راحت تخدم تلك التي شاخت... مريم، حاملة الحياة، أصبحت من ذات فعلها خادمة البشر، مثال خدّام الأخوة، بعد أن كانت خادمة الرب!

في قانا: "لم يعد لديهم خمر… افعلوا ما يأمركم به" (يو2/4-5)

مريم أظهرت دورها كأم للخليقة، حين استبقت الساعة وطلبت من ابنها: إنّها أم يسوع، ولكنّها أم الذين أخذوا يلمسون البؤس... إنّها المرأة التي ترى، والتي تهيئ، التي تشعر تتعاطف مع الانسان ... المرأة الخفيّة والفعّالة التي تخدم وتنصح وتطالب بحقّ الضعيف... إنّها المرأة التي تعرف كيف تختفي وهي حاضرة،  انها حب وحضور...

على أقدام الصليب: " قرب الصليب كانت واقفة أمّه" (يو20/4-5)

مريم المداومة والمثابرة والجريئة... مريم الإنسانة والحسّاسة... مريم الأم صاحبة القلب المطعون والروح المنسحق، والجسد المنحني… مريم شهيدة الحب، شهيدة قرب ابنها الشهيد... مريم هي المتضامنة مع الإنسانية المتألّمة، مع كل المجرّبين في الأرض في كلّ الأوقات وكلّ الأمكنة... مريم واقفة على أقدام الصليب... في الآلام والحب الى أقصى حدود، إنّها تعطي ابنها، وتلد معه الكنيسة... وكل البشرية المخلَّصة.

زمن القيامة: فكما كانت مع ابنها على أقدام الصليب، هي معه في فرح القيامة... "طوبى لمن يؤمن دون أن يرى!" (يو20/29)

زمن العنصرة: "مريم كانت هناك في العلّية" (أع1/14)

مريم كانت حاضرة... في قلب جماعة الرجال التي تتحضّر للانطلاق في رسالتها. مريم، كما في قانا، هي هنا، إنّها تشدّد، تقوّي وتشارك التلاميذ – الرسل فرحهم، تشجّع، تفتح لهم أبواب العلّية وتدفعهم للخروج، على طرقات الناس...

مريم!!! الشفافية...

إنّها ترى، تستبق الأمور، وتعطي الحاجة الملحّة.

إنّها تفهم في قلبها، وتتحاشى بلباقة، الظروف الصعبة.

إنّها تشعر، تشجّع وتغمر في ظلّ جناحيها من هو ضعيف...

إنّها تستقبل وتصغي بتعاطف، تشعر بالآخر.

إنّها تسهر، تحمي وتنظر أبعد من الأمور الحاضرة والمنظورة.

إنّها تشاركنا حالتنا البشرية، فرحنا وأتعابنا.

إنّها تخدم، تعذر وتصبر.

إنّها قريبة ولكنّها خفيّة.

إنّها تعزّي، تقود، وتصلح ما قد هُدِّم.

إنّها تفرح لفرحنا وتحزن لحزننا.

إنّها بكليّتها جسد من جسدنا...

إنّها تحب وترجو.

إنّها مختارة بين كلّ النساء، ابنة شعب يسير يتقدّم لتكون له وأمامه المثل والقدوة.

إنّها باب السماء...!!!

 ما الذي لم تعشه هذه الابنة التي من أرضنا ؟

الاستقبال والعطاء.

الثقة والتسليم لسرّ كبير

الحياة الخفية وحياة الخدمة.

تجربة التهجير والتعب.

تجربة  القلق والخوف.

تجربة صليب ابنها، تجربة ولادة الكنيسة.

فرح القيامة.

فرح ملء الروح، فرح الإرسال، فرح ولادة الكنيسة.

أخيراً فرح اللقاء النهائي بالآب وبابنها وبالروح القدس عروسها.

 هكذا عاشت مريم، هكذا تعيش الكنيسة منذ ألفي سنة وهكذا ستعيش الى الأبد...

هكذا حوّلت مريم كل حدث الى عيد، الى احتفال مفرح، لأنّها عاشت كل ذلك معه وبقربه ولأجله...

محورت حياتها وكيانها ورغبتها حول شخص ابنها، المسيح. (لننظر كيف نصلّي المسبحة انطلاقاً من أسرار المسيح: أسرار الفرح، الحزن، المجد). ولهذا السبب كان لكلّ حدث لون وطعم خاص، طعم حضور الله المكثّف في حياتها... لأنّ حياتها كانت ملء حياة، والفضل بذلك "للحياة"، "للعطية" المقبولة والمقدّمة لكل بشر... لأنّ مريم أحبّت ابنها وأحبّت كل إنسان بابنها... لأنّ مريم لم تكن سوى حب... لم تكن سوى كتلة حب صافي وطاهر... أكان بإمكانها أن تكون غير ذلك بقرب " الحب "؟

 

بعض االنقاط العمليّة لنا اليوم:

مريم هي مثال المرأة، مثال السيّدة العظيمة الرائعة بحضورها الصامت، المنفتح والمستقبل. تعلّمنا كيف نعيش هذا الحضور، نحن المعرّضون للحكم على الآخرين، لانتقاد من هم حولنا (الآخرين، الأقربين، البعيدين، الكنيسة…) مريم في قانا تبقى لنا المثال الذي نقتدي به.

1-       مريم هي مثال الطاعة والانقياد والطواعيّة… بايمانها واصغائها، طاعتها وخوفها… كم من الظروف في حياتنا اليوميّة اذا حوّلناها الى مريم تتغيّر، وخاصّة اذا تأمّلنا ذلك الوجه الجميل ، وجه "ست الكل" وسمعنا بعضاً من نصائحها…

2-       مريم هي مثال الانسان المصلّي، لأنّها تعيش بتناغم مع الروح القدس… أليست هي عروسه المحبوبة؟… من حميميّتها مع الروح، علينا جميعا أن نتعلّم. لندخل في مدرستها فتنفتح أمامنا وفي قلوبنا ابواب السماء وتظهر نجمة الصباح في وسط ظلماتنا.

3-       مريم، مثل ابنها، هي صلة الوصل بين الأرض والسماء. يكفي أن نلتجئ اليها لتنفتح لنا وللكنيسة والعالم أبواب الرجاء. مريم هي قريبة. مريم لم تخيّب يوما من التجأ اليها.

 …لنأخذ مريم الى بيتنا كما فعل يوحنّا: "وأخذها يوحنّا الى بيته"(يو 19 / 27) . لنأخذ مريم الى بيتنا اذا أردنا أن نعيش في حميميّة الآب والابن والروح القدس.

الأخت ماري أنطوانيت سعادة 
راهبات العائلة المقدسة المارونيات