"كيف أعيش مسيحيتي" - الأب مارون مبارك (مرسل لبناني ماروني)

صليب الكريم

كيف أعيش مسيحيّتي

عيلة مار شربل - رياضة روحية /4-5 شباط 2006
  دير سيدة الجبل
كيف أعيش مسيحيّتي - الأب مارون مبارك (مرسل لبنانيماروني)
 
الموضوع عملي يتطلّب طرق للإستعمال.      
الموضوع واسع لأن أمر المسيحية أمرٌ واسع.
الموضوع صعب لأنّ العيش ضمن متناقضات ومعاكسات ليس بالسهل ويتطلّب احتواءً واسعاً وكبيراً.
الموضوع حاجة ملحّة لمن يطلب الوصول إلى الأهداف الكبرى وأهمّها القداسة.
الموضوع لا يقف عند المعطيات الفكرية والخطط العملية، بل يتعدّى إلى الأمر "الخاص والشخصي". لأنّ العمل هو عند الشخض وليس عند الخطة. لا تنقصنا الخطط، إنّما ينقصنا التفاعل معها.
 
1)    تحديد النقاط الأولى:
أ‌)       مفهوم كلمة "عيش" ينطبق على الحياة. وكلمة حياة كما شرحناها في لقاءات سابقة انطلاقاً من أصلها اليوناني: Zoë: يعني قوّة التحرك، الحيوية في الجسم. Bios: يعني النمو والتطور في محطات العيش.
ب‌)   مفهوم المسيحية: كثيراً ما نظنّ أنّها فلسفة نستخرجها من خلال الإنجيل والتقليد والتعليم الكنسي. فنحدّد مفاهيمها في كلّ أبعاد حياة الإنسان يعني في تحرّكه وتطوّره من ناحية ذاته، علاقته بمحيطه، نوعية تفاعله مع هذا المحيط. وبالدرجة الأولى مصداقية العلاقة والتفاعل مع الله. لذلك نطلق على مفهوم المسيحية النظرية التي تعطيها الديانة للأمور.
ولكن بالبعد الروحي، "المسيحية" أكثر من فلسفة وخطّ حياة مركّز على مبادئ. إنّها "خبرة" يعيشها الإنسان في "علاقة" مباشرة مبنيّة على "تعليم" مستشفّ من الإنجيل والخبرات الأخرى عبر العصور، ويقودها كلّها "الروح القدس".
إذاً، بهذا البعد الثاني من مفهوم المسيحية نجد عناصر كثيرة مهمّة لها أبعادها المميّزة.
i)       خبرة: عمل يستفيد منه الإنسان، مما يجعله يتعلّم أموراً ترسخ في قناعته.
ii)    علاقة: أي بناء تواصل يدخل إلى العمق مما يؤثّر في معرفة الإنسان وفي أحاسيسه وفي نوعيّة عيشه. العلاقة مع الربّ تصل إلى القريب.
iii)  تعليم: ليس تعليماً عادياً بل تعليماً كنسي يُلهم فيه الناس الروح القدس ليسمعوه وليفهموه وليجعلوا منه قانون حياة.
iv)  الروح القدس: هو قائدنا ومعلّمنا الباطني لأنّه يعمل فينا من الداخل. المحرّك الباطني وهو الأفعل للحياة.
إذاً عندما نتكلّم عن حياة مسيحيّة إنّنا نتحدّث عن مشروع متكامل بين هذه العناصر المتفاعلة والفاعلة فينا.
 
2)    البعد العملي في الموضوع:
وهذا ما نتوخّاه كلّنا لأنّه عندما نركّز المبدأ، يصبح العمل سهلاً. فالخطة العملية التي نقترحها لعيش مسيحيّتنا، "يعني لوضع خبرتنا بالعلاقة مع الله انطلاقاً من تعاليم الكنيسة وعمل الروح القدس". نختصرها بالنقاط التالية:
أ‌)       القطاع الأوّل: هو قطاع العلاقة بالربّ والتعاطي مع الشأن الكنسي. وهنا نقطة التركيز هي "الإيمان".
-    الإيمان بالله يعني أكثر من يقين و قناعة بوجوده ووحدته، بل "التماس حبّه" وحضوره الأبوي الذي يعطي للحياة دفعاً ومعنى.
-     الإيمان بكلّ ما يوصلني بالله أي الكتب التي تحكي عنه ويحكي فيها معنا. من هنا قوّةالإنجيل ودوره في إلقاء الأضواء على حياتي اليومية. أين الإنجيل في حياتي؟ هل أستنير منه؟
-      الإيمان بالكنيسة التي هي أبعد من كاهن لا يعجبني منظره و أداءه. إنّها الجماعة التي أَوكلها الربّ أن تتابع رسالته وتسهر على صدق الإيمان به. إنّها مسيرة جماعة يسوع التي تحيا وتعيش منه ومعه ولأجله.
-       الإيمان بالصلاة اللفظيّة والعمليّة لأنّها تفتح لي الطريق لبناء العلاقة الجيّدة مع الله، ومن هذه العلاقة تنطلق مسيرتي الذاتية.
باختصار: أعيش مسيحيّتي عندما "أقتنع" بعلاقتي الجديّة مع الله وكلّ ما يدور في فلكه، وعندما أشتغل من خلال هذه القناعة وأعطي مكاناً ووقتاً لها.
 
ب‌)  القطاع الثاني: هو قطاع التعاطي مع القريب والمحيط، ونقطة التركيز هنا هي المحبّة.
o    يقول القديس أغوسطينس "أحبب وافعل ما تشاء". وكما نعلم أن الله "محبّة"، لذلك المحبة هي الكبرى والأعظم كما يقول مار بولس.
o     عندما نتعلّم العيش المسيحي للبُعد الأخوي هذا يتضمّن:
(1) المسامحة بالدرجة الأولى، لأنّها ترتكز على الامتلاء من الله.
(2) العطاء لأنّه يرتكز على الحبّ الكبير.
(3) التهذيب والرويّة والأخلاق الدمثة.
(4) الانفتاح وهو مصدر كلّ سلام.
(5) الصبر الذي يعطي مجالاً لتصفية الأمور.
(6) التواضع بمعنى الاكتفاء الداخلي بالغنى الروحي لتخطّي كلّ ما يجعلني متكبّراً، قاسياً بالمادة و فقيراً بالروح.
(7) البساطة، وذلك عن طريق عدم الحكم المسبق وعدم تعقيد الأمور التفصيلية بل التطلّع إلى رؤية أبعد والانطلاق من الأعمق.
(8) الخدمة التي تترجم الحبّ الصحيح لأجل بناء الإنسان.
(9) المجانية في التعاطي بشكل عام، بمعنى gratis، وفيها بُعد الفرح بالعطاء بدون خوف، لأنّنا نبحث دائماً عن الأهم لذلك لا نعود نسأل عن الأقلّ أهميّة.
(10)   الصدق، لأنّ روح العالم يعتبره شطارة. أمّا نحن أبناء النهار لا يمكننا إلاّ أن نعتبره حقيقة كما علّمنا إياها يسوع. ومَن أَحبّ الحقيقة أعطاها حياته لأنّ هذه الحقيقة تحتاج إلى حياة لكي تستوعبها.
 
باختصار: أعيش مسيحيتي عندما أعيش المحبّة تجاه القريب الذي هو إنسان والذي هو المحيط، وفي كِلا الحالين أنا أعمل لأجل البنيان.
هنا نستذكر نصّ نشيد المحبّة الذي يتحدّث عنه مار بولس في 1 قور 13. فهو يذكر أهمية المحبّة، ومن ثمّ يعدّد أعمالها الكثيرة والتي كلّها تهدف إلى بناء الإنسان.
وهذا ما صنعه يسوع وعلّمه وحقّقه من ذاته، فجسّد لنا محبّة الآب التي تعطي الحياة.
 
فإذا عشنا حياتنا المسيحية، نحن نسهم في مواصلة تجسيد محبّة الله الآب للخليقة حتى تبقى هي المنتصرة على الموت.
 
ج) القطاع الثالث: هو قطاع "الأنا – الذات" و هنا يبرز دور الرجاء. كيف أعيش مسيحيّتي أنا في العمل على ذاتي.
o           هنا نستذكر عظة يسوع الكبرى على الجبل في إنجيل متى الفصول 5-6-7، فهي ترسم لنا خريطة مسيحيّتنا في ذاتنا الداخلية حتّى نعيش تعاطينا الخارجي بكلّ الشؤون بشكل صالح وبنّاء.
o           التطويبات تعمل فينا بالداخل لأنّها تؤسّس قناعاتنا التي ترسّخ ثباتنا. إنّها شرعة السعادة الحقيقية. فيها تتركّز المفاهيم التي على المرء أن يتابعها على ذاته حتى تجعله يمتلئ من الداخل فلا يهزّه الخارج بل يفرض ذاته على هذا الخارج.
o           تؤدّي التطويبات إلى الغنى الداخلي الذي يساعد على تقبّل كلّ متطلّبات الرسالة المسيحيّة أي عيش شريعة المسيح التي تعلو بالإنسان.
o             يعدّد لنا الإنجيل أنواع العيش الشخصي مع المواضيع التالية:
-                     الصدقة النابعة من القلب بحقّ.
-                     الصلاة و الصوم الصادقين.
-                     المال و التعاطي معه بتجرّد.
-                     الاتّكال على نعمة الله، الثقة بالله تقوّي العمل.
-                     الطريق الضيّق هو خيار لأنّ الهدف هو الأهمّ، وهدفنا هو القداسة.
-                     القول والعمل هي دلالة على صدقنا في التعاطي بكلّ الشؤون.
 
باختصار، يمكننا أن نحدّد العمل على الذات بنوعيّة السهر الدائم لمحاسبة الذات لكي نصوّب على الهدف وهو القداسة ولكي نقوّم العمل بحسب الأصول التي نحن نؤمن بها. من هنا ضرورة فحص الضمير ومتابعة الشأن الخاص للوصول إلى الصحّ.
و إذا أردنا أن نرسم خارطة العمل للعيش المسيحي اليومي نصوّرها:

 

العلاقة مع الله

 

العلاقة مع المحيط

العلاقة مع القريب

 

العلاقة مع الذات

 

هكذا يتصوّر صليبنا الخاص الذي به نعمل على خلاص نفوسنا.
 
لا يمكننا أن نعيش مسيحيتنا إلاّ بِبُعدها الخلاصي المبني على الصليب والذي ينتهي في السعادة. وهذا ما رسمه لنا يسوع بذاته.
آمين.