إلّا بالصّوم والصلاة

لقاء عيلة مار شربل 6 آذار 2019 في كنيسة مار شربل أدونيس.

 

تطلب منَّا الكنيسة في زمن الصّوم أن نفعل ثلاثة أشياء: الصلاة والصوم والصدَقَة ولكن لا شكّ أنَّ الأصعب والأكثر إشكاليّة هوَ الصوم. فبالمبدأ أنَّ التخلِّي عن أشياء نحبُّها وتجعلنا سعداء هوَ عمل غبي لأنّنا سنحزن. كيف نفرَح إذا صمنا؟ وماذا نستفيد؟ مِن بدء البشريّة والإنسان يعتبر أنّ الصوم مهمّ. كانوا يعتبرون أنّ الصوم يرفع العقل وينبّه الذّهن ويجعل الإنسان أكثر إستعداداً للمعرفة (أفلاطون، أرسطو، سقراط) عندما أراد بيتاغوراس الدخول إلى مدرسة في مصر أُجبرَ على الصوم أربعين يوماً. وأتباع جميع الديانات يصومون بطرق ومواعيد مختلفة (البوذيّون، اليهود، المسلمون...)

لماذا نحن نصوم؟ وما هو مفعول الصوم في حياتنا؟.

يقول مار بولس في غلاطية (5 / 17): "لأنّ الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد وهذان يقاومان أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون".

إنّ العبوديّة هي أن تقول (نعم) دائماً لشخص أو كائنٍ ما ولا تستطيع أن ترفض له طلباً. عندما نقول دائماً لجسدنا (نعم) نكون عبيداً له نفعل كلّ ما يريده ويطلبه منّا ولا نرفض طلباته. لمَن نقول نحن دائماً (نعم)؟ من هوَ سيّدنا؟ مَن نعبد؟.

الصّوم يُخضع الجسد، لأنّ الصّوم يُضعف الجسد ويكشف ضعفه فتقوى الرّوح، نحرم الجسد ممّا يرغب فنجبره أن يهدأ ونصبح نحنُ أسياده ونتوجّه نحوَ الروح فنغذّيها بالصلاة لتقوى. يقول يوحنا الذهبيّ الفمّ: الصّوم والصلاة جناحين يرفعانك إلى الله، أمّا القديس أغوسطينوس فيقول: إذا أردت أن تطير صلاتك إلى الله أعطِها جناحين الصّوم والصدقة. أما توما الأكويني فهوَ يشبّه قلب الإنسان إلى قطعة مِن الفضّة الصافية وأمور هذا العالم إلى القصدير الرّخيص وأمور الله إلى الذهب الخالص. فكلّما مزجنا قلبنا بأمور العالم خفّت قيمته وكلّما مزجناه بأمور الله زادت قيمته وأصبح ثميناً. في الصوم نقول "لا" للقصدير لنربح الذهب. نتوقّف عن مزج قلوبنا بأمور هذا العالم لنرفعها إلى الله ونمزجها بروحه بواسطة الصلاة كما يقول القدّيس بطرس كريسولوغوس: "الصوم هوَ روح الصلاة".

لقد صام يسوع أربعين يوماً في البريّة قبل انطلاقه في العالم في عمله الخلاصيّ، وجُرِّبَ مِن قِبَل الشرّير في الأمور الأساسيّة التي تتحكّم بنا ونُجَرَّب بها كلّ يوم: شهوة الجسد وفخر الحياة وشهوة السلطة.

الخبز: إستعمل مواهبك لتُشبع رغباتك الجسديّة.
على جناح الهيكل: إستعمل بنوّتك لله لتبرز نفسك ساعياً للشهرة والفخر وجرّب الله بإخضاعه لك.
ممالك الأرض: أُعطيك سلطة وسيطرة إذا سجدتَ لي.

وفي كلّ التجارب كان يسوع يرجع إلى الله ومشيئة الله وكلمته ووصاياه وهوَ الذي قال لاحقاً لتلاميذه: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي". وفي عظة الجبل (متى 6) قال يسوع أمّا أنتَ متى صلّيتَ... وأمّا أنتَ متى صُمْتَ... وأمّا أنتَ متى تصدّقتَ. هوَ لم يقل إذا صمتَ أو إذا صلّيتَ... بل متى، لأنّ الصلاة والصوم هُما أمران بديهيّان بالنسبة له وقد أعطى توصياته ألّا يكون صومنا وصلاتنا وتصدّقنا أعمالاً خارجيّة طلباً لرضى العالم بل أعمالاً داخليّة عميقة حميمة طلباً لرضى الله.

إنّ الغاية مِن كلّ عمل روحيّ نقوم بهِ هوَ محبّة الله ومحبّة القريب والخطر الأكبر على الحياة الروحيّة هوَ الكبرياء الذي هوَ في أصل كلّ الخطايا. إنّ الطريق الأفضل للتواضع ومحارَبة الكبرياء هوَ الصوم.

 

إنّ الشيطان قد رفع نفسه ليتساوى مع الله فهبط إلى القعر إلى الجحيم، أمّا يسوع المتساوي مع الله قد أخلى ذاته وهبط إلى القعر فرفعه الله، وقَد قال يسوع: "مَن يرفع نفسه يتّضع ومَن يضع نفسه يرتفع" (لوقا 14 / 11) ويقول القديس يعقوب (4 / 10): "إتّضعوا أمام الربّ فيرفعكم"، ويقول القدّيس بطرس في رسالته (1 بطرس 5 / 6): "فتواضعوا تحت يد الله القويّة لكي يرفعكم في حينه، تسربلوا بالتواضع. الله يقاوم المتكبّرين وأمّا المتواضعون فيعطيهم نعمة".

في العهد القديم الصوم يعني إذلال النفس والإنسحاق أمام الله والتواضع أمام مشيئته. في مزمور (35 / 13) يقول داود: "أَذلَلتُ بالصوم ذاتي" والذات هيَ مركز "الأنا" هيَ مركز الفكر والإرادة والشعور (أفكّر، أريد، أشعر.) عندما نذلّ النفس نضعها بخدمة الله فنضع إرادتنا وفكرنا وشعورنا بتصرّف الله وليس تصرّفنا.

في سِفر اللاوييّن (16 / 19- 31): يتكلّم عن يوم الصوم ويقول: يكون لكم فريضة دهريّة... تذلّلون نفوسكم لأنّه في هذا اليوم يُكفّر عنكم لتطهيركم. ومِن جميع خطاياكم أمام الربّ تَطهَرون.

في سِفر عِزرا (8 / 21): يقول عِزرا: وناديت هناك بصوم على نهر أهوا  لكي نتذلّل أمام إلهنا لنطلب منه طريقاً مستقيماً لنا ولأطفالنا ولكلّ ما لنا... فصمنا وطلبنا ذلك مِن إلهنا فاستجاب لنا.

وفي سِفر يونان النبي: آمنَ أهل نينوى ونادوا بصوم... فنَجَت المدينة. فالصوم دائماً هوَ عمل تواضع لِسَحق الذات والكبرياء ووضع النفس في خدمة الله. وقد كان الصوم دائماً مع الصلاة محوَر الحياة الروحيّة للرسل والتلاميذ والجماعة الأولى:في  أعمال الرسل (13 / 1- 4): "وبينما هُم يخدمون الربّ ويصومون قال الروح القدس: "إفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه". فصاموا حينئذٍ وصَلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثمّ أطلقوهُما." وكانت بداية الرسالة التبشيريّة في الكنيسة. في أعمال الرسل (14 / 21): "ثمّ رجعا إلى لِسترة وأيقونية وأنطاكية... ثمّ صلّيا بأصوام واستودعاهما للربّ". يقول مار بولس في كورنتس (2 كور 6 / 4): "في كلّ شيء نُظهر أنفسنا كخدّام لله: شدائد، ضيقات، ضربات، سجون، أتعاب، أسهار وفي أصوام". وفي كورنتس (2 كور 11 / 23): "في جوع وعطش وفي أصوام مراراً كثيرة."

 

فالصوم إذاً هو من أُسُس الحياة الروحيّة مع الصلاة وقد كانا سلاح المسيحييّن منذ البداية. وهو الدواء الأقوى لمحاربة الكبرياء ولكسب ميزة التواضع الأساسيّة في السعي إلى القداسة.

في سِفر الأخبار (2 أخبار 7 / 14) يقول الله: "إذا تواضع شعبي الذي دُعيَ إسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرُقهم الرديئة فإنّني أسمع من السماء وأغفر خطيئتهم وأبرِئ أرضهم".

فإنّ الله يطلب منّا دائماً نحن الذين دُعِيَ إسمهُ علينا أن نتواضع ونصلّي ونطلب وجهه ونرجع عن طرقنا الرديئة فيَسمع هوَ من السماء ويغفر خطايانا ويبرئ أرضنا.

فلنعد إذاً إلى جذور حياتنا الروحيّة العميقة ويكون لنا زمن صوم جدّي نعمل خلاله على التواضع والإنسحاق أمام الله بأصوام وصلوات وإماتات، نُخضِع فيه أجسادنا ونرفع فيه أرواحنا إلى الله ليُطهّرها ويُقدِّسها، فيكون زمن صوم مقبول لديه وخطوة ثابتة في طريقنا إلى ملكوته."

 

لمشاهدة الفيديو: https://youtu.be/peLu1kQQ9Ig