بالروح القدس والنار

 لقاء عيلة مار شربل مع ريمون ناضر 2 ك2 2019 كنيسة مار شربل - أدونيس

تكلّمنا في الحديثين السابقين عن الآب والإبن ولا بدّ لنا في زمن الدنح أن نتكلّم عن الرّوح القدس.

الروح القدس هو ذلك الإله المجهول الذي نادراً ما نفكّر فيه أو نتوجّه إليه بصلواتنا. بل نتوجّه بسهولة أكثر إلى الإبن الذي تجسّد آخذاً صورة إنسان فنستطيع أن نتخيّله في عقلنا. ونعطي كذلك صورة للآب نرسمها في ذهننا ولكنّ الروح القدس يبقى غامضاً وشِبه مختفياً بينما هو في الواقع يَعمل فينا كلّ شيء وهو حضور الله فينا.

ربّما نكون جميعنا نتمنّى لو عاصرنا زمن المسيح عندما كان بالجسد بيننا على الأرض نراه ونسمع صوته ونصغي إلى كلماته وتعاليمه ونراه يجترح المعجزات ونرافقه في تجواله ... ولكنّه هو قال أنّه يجب أن يذهب ليُرسِل إلينا الروح القدس وقد حزن تلاميذه لأنّه قال أنّه ذاهبٌ ولكنّه قال أنّه لا بدّ أن يذهب.

لقد كان يسوع المسيح إبن الله يتواجد بالجسد في مكان واحد وزمان واحد أثناء وجوده على أرضنا، فلقد سكَنَ بيننا ولكن بعد موته وقيامته وتمجّده وبعد أن أَرسَلَ روحهُ القدّوس أصبح يَسكن فينا، لقد انتقل من بيننا إلى فينا وأصبح جسد المسيح السرّي اليوم في كلّ المسكونة حيث يُوجد أي معمّد. وهذا هو بالضبط مشروع الآب الذي حقّقه الإبن بتجسّده. فكلّ هدف الله من خلقنا هو إعطاءنا الروح القدس لتقديسنا وليَجعلنا على صورتِه قدّيسين فنحيا معه إلى الأبد.

لم يأتِ يسوع إلى أرضنا ليَجعل منّا فقط صالحين نقوم بأعمال الخير ونحيا حياة صالحة، لقد جاء يسوع وتَمجّدَ بعد موته وأرسَلَ لنا الروح القدس ليُدخلنا بشركة مع الثالوث الأقدس. فالروح القدس هو شخص شركة الحُبّ بين الآب والإبن. وبالروح القدس الذي فينا نَدخل في هذه الشركة مع الآب والإبن ونتقدّس ونُحقّق مشروع الآب فينا. كما الإبن أظهرَ لنا الآب، كذلك الروح القدس يُظهر لنا الإبن. فالإبن جاء يَشهد للآب ويُعلنه لنا والروح القدس يَشهد للإبن ويُعلنه لنا. فبدون الإبن لا نعرف الآب وكذلك بدون الروح القدس لا نعرف الإبن يسوع. فبالروح القدس الساكن فينا وحده نستطيع أن نُعلن بنوّة المسيح لله، ونستطيع أن ننادي الله أبانا. وبدون الروح القدس يبقى الإنسان أعمى عن حقيقة يسوع وحقيقة الآب.

والروح القدس ليس طاقة أو قوّة فقط كما يدّعي البعض، بل هو شخص يَعمل فينا ويُعطينا مواهبه وبحضوره فينا يُحوّلنا من طبيعتنا البشريّة إلى الطبيعة الإلهيّة، فنُصبح قدّيسين بلا عيب أمام الله بالمحبّة بالمسيح يسوع بواسطة الروح القدس.

بدون الروح القدس نرى بالمسيح فقط معلّماً أو فيلسوفاً أو مُصلِحاً إجتماعيّاً ولكن بالروح القدس نَعرف ونُدرك أنّ المسيح هو إبن الله. فالروح القدس هو يُنمّينا ويُعلّمنا ويُفهّمنا ويُرشدنا ويُحوّلنا بقوّته إلى أبناء الله "في ذلك اليوم ستعرفون أنّني في الآب وأنتم فيّ وأنا فيكُم".

إنّ الروح القدس يُعلن لنا حقيقة الله الثالوث ويَعمل فينا لتقديسنا، لذلك يُبكّتنا على الخطيئة ويُفهّمنا ما هي الخطيئة ويُحذّرنا منها كي لا تنقطع بسبب الخطيئة شركتنا مع الثالوث. فبدون الروح القدس أيضاً لا نعرف معنى الخطيئة ولا نُدرك ما هو خير وما هو من الشرّير.

فالمعموديّة إذاً بالروح القدس هي دعوة إلى التجلّي وليس فقط السلوك الأخلاقي، فنصبح كهنة وأنبياء وملوك ورثة لملكوت الله أبناء لله. لم يُرسِل لنا يسوع المسيح الروح القدس أثناء وجوده على الأرض لأنّ الغاية من إرسال الروح القدس هو أن يَحلّ فينا ويَجعلنا على صورة يسوع المسيح المُمجّد وليس على صورة يسوع المسيح إبن الإنسان فقط. لذلك كان لا بدّ للمسيح أن يصعد إلى السماء ويَتمَجّد عن يمين الآب ويُرسل لنا الروح القدس ليَجعلنا على صورته الممجّدة. وها هو اليوم يعمل في الكنيسة ويجعل من المعمّدين فيه إذا قبلوه مشاريع قدّيسين.

 

إنّ هدف عمل المسيح الخلاصي كلّه هو إعطاؤنا الروح القدس. لذلك قال يوحنا إنّ الذي يأتي بعده وهو أقوى منه يُعمّد بالروح القدس والنّار. وقد جاء كلام يوحنا المعمدان هذا أثناء حديثه عن الفأس على أصول الشجرة، فكلّ شجرة لا تُثمِر تُقطَع وتُرمَى بالنّار، وكذلك عندما قال أنّ الآتي بعده يحمل في يدِه المِذراة ويُنقّي بيدرَهُ فيَجمع القمح ويَرمي التبن والقشّ في النّار. فالروح القدس هو نار مُطهّرة يَحرق الخطيئة فينا إذا قبلناه وتركناه يَعمل فينا، ويُحرقنا بنار لا تنطفئ إذا منعناه من أن يعمل فينا، ويُعطينا الحياة فهو الربّ المحيي. لذلك يقول القديس بولس لا تُحزنوا الروح ولا تُطفئوا الروح ونحن مدعووّن أن لا نقاوم عمل الروح فينا وذلك بالطاعة لوصايا الله والإبتعاد عن الخطيئة. وإنّ التجديف على الروح القدس الذي لا يُغفَر أبداً هو منع الروح القدس من العمل فينا وعدم قبولنا لرحمة الله وإصرارنا على البُعد عنهُ والغرق بالخطيئة. كلّ حياتنا هي تلبية لدعوة الله لنا للقداسة، فلنَترك الروح القدس يَعمل فينا ويُضرمنا بناره، ويُحوّلنا إلى قدّيسين ويُدخلنا بشركة المحبّة والقداسة مع الثالوث الأقدس، ويَجعلنا أبناء الله فنحيا معه بمجدِهِ إلى الأبد.

مشاهدة الفيديو على الرابط التالي: https://youtu.be/EH8vyub3gbw

 

صلاة: هَلمّ أيها الروح القدس، وأَرسِل من السماء شعاع نورك. هَلمّ يا أبا المساكين. هَلمّ يا مُعطي المواهب. هَلمّ يا ضياء القلوب. أيّها المعزّي الجليل، يا ساكن القلوب العذب. أيّتها الإستراحة اللذيذة، أنتَ في التعب راحة، وفي الحَرّ اعتدال، وفي البكاء تعزية. أيّها النور الطوباوي، إملأ باطن قلوب مؤمنيك. لأنّه بدون قدرتكَ لا شيء في الإنسان ولا شيء طاهر: طهّر ما كان دنساً، إسقِ ما كان يابساً، إشفِ ما كان معلولاً، ليّن ما كان صلباً، أضرِم ما كان بارداً، دبّر ما كان حائداً أعطِ مؤمنيك المتّكلين عليك المواهب السبع، إمنحهم ثواب الفضيلة، هَب لهُم غاية الخلاص، أعطِهِم السرور الأبدي. آمين.