"الرعية أغصان في كرمة" - المونسنيور يوسف سويف

الرعية هي الكنيسة الصُغرى حيث ينمو الإنسان في نعم الخلاص ويشهد للمحبّة بين الاخوة. "فمن يفرح ولا أفرح أنا، ومَن يبكي ولا أبكي أنا". إنّه التضامن الروحي والانساني الذي تعيشه الرعية فتكون بحقّ كنيسة.

إنّ مفهوم الرعية والكاهن ليس دائرة "تصريف معاملات" إنّها "جماعة محبّة"، ولكلّ عضوٍ دوره في الجماعة الرعوية وعلى الكاهن أن يعي وينمّي موهبة كلّ الأعضاء كما أنّه على أبناء الرعية أيضاً أن يأخذوا المبادرة في تقديم ذواتهم ومواهبهم وأوقاتهم لخدمة الجماعة روحيّاً وإجتماعيّاً وثقافيّاً وفي كلّ الميادين وبخاصةٍ من خلال الحركات الرسولية واللجان العاملة في الرعية.

إنّ الرعية هي الهدف الأساسي من كلّ النشاطات الكنسيّة والرسولية والإجتماعية وعلينا اليوم أن نُعيد النظر في كيفية العمل الرعوي لنرى إذا كان يُغني الجماعة الرعائية أم يفقّرها.

1- الرعيّة كرمة المسيح.

الرعيّة هي جماعة المؤمنين التي تعلن إيمانها بقيامة المسيح من بين الأموات وتشهد لهذه القيامة في الحياة اليوميّة. فهي تجسيد لحقيقة الكنيسة التي هي بِحقّ أغصان عديدة في كرمة المسيح الواحدة والكرّام هو الآب السماوي.

إنّ صورة الكرمة والأغصان تخلق الوعي الكنسي بأنّ لكلّ معمّد في الرعيّة مكانته ودوره وقيمته كما أنّه لكلّ جماعة في الرعيّة مهمّتها ورسالتها ومواهبها، فالكلّ يساهم في تحقيق سرّ الكنيسة الواحدة، جسد واحد. ودور الحركات في الرعيّة هو أن يقوّى حسّ الانتماء إلى المسيح الكرمة بكونها غصن مزهر ومثمر في جماعة المؤمنين.

المطلوب إذاً نظرة كنسية شاملة وايمان بكنيسة واحدة لكن أيضاً جامعة وتنمية لاهوت وروحانيّة "الوحدة في التنوّع": مواهب متعدّدة، أعضاء كثيرة لكن من أجل جسد واحد هو المسيح وكنيسته. هذه الروحانيّة تقود تلقائيّاً إلى الإنفتاح والتفاعل مع الجسم الرَعوي بكامله وعبر الأنظمة الكنيسته وأهمّها "المجلس الرعوي" الذي ينشّطه كاهن الرعيّة وإلى جانبه الحركات الرسوليّة مع الكوادر الرعويّة الأُخرى كشهادة ساطعة للوحدة في المحبّة.

2- اختبار العنصرة: جماعة مصلّية

الرعية تنمو وتتجدّد بالرّوح القدس الذي يصلّي فيها بأنّات لا توصف، فبقوّة الرّوح القدس ندعو الآب أباً وندخل معه في علاقة شخصيّة بواسطة إبنه الوحيد الشفيع. والرعيّة مدعوّة دائماً أن تجسّد حالة الصلاة الدّائمة وبهذا تؤدّي رسالة المسيح الكاهن: الحركات في الرعيّة هي أوّلاً جماعة مصلّية في مستويات ثلاث:

أ-على مستوى الفرد: إنّ مَن يلتزم في الحركات هو إنسان مصلّي، يصلّي صلاة الكنيسة: الصباح والمساء وصلاة عقليّة وقلبيّة وصلاة الورديّة وصلاة مع الكتاب المقدّس وتأمّل وخلوة أي علاقة شخصيّة بالرّب القائم.

ب-على مستوى الفرقة: إنّها جماعة صلاة في كلّ أنواع الصلاة. وهنا أقترح أن نعتاد في صلاتنا على صلوات الساعات "الشخصيّة" أو الأزمنة الطقسيّة: إنها صلاة الكنيسة الرسميّة التي من خلالها ندخل في شركة مع جسد المسيح الذي ينشد نشيد التسبيح للآب في كلّ العالم، ومنها نستقي روحانيّة ثابتة، راسخة من دون أن أنفي أهميّة أنواع الصلوات الأخرى.

ت-على مستوى الجماعة الرعويّة: ثمرة الإختبار الفردي وداخل الفرقة أيضاً، تظهر في التزام أبناء الحركات في أوقات الصلوات داخل الجماعة الكبرى: ولأوقات الجماعة الرعويّة الأفضليّة ودور الحركات هنا هو تنشيط وإحياء الصلوات داخل الرعيّة بالتنسيق مع الكاهن. فالجماعة الروحية تختبر أولاً العنصرة وهذه أيقونة شعارها ومن هنا تنطلق لِتكون شهادة للمسيح في العالم. فأيّ شهادةٍ نؤدّي إذ لم تنبع من داخلنا، ممّا اختبرن، ممّا رأينا، ممّا لمسته أيدينا وذقنا طعمه.

3- كلمة الله روحٌ وحياة

الإعلان الأوّل لكلمة الله يكون في الجماعة الافخارستيّة. إنّه إعلانٌ للكلمة – الحدث؛ إنّها الواحة اللاّهوتيّة للكرازة وساعة التعليم المسيحي الأولى بدون أفضليّة أخرى. من هنا أي من اعلان كلمة الله في القدّاس يبدأ مشروع الكرازة والتعليم وتشارك الكنيسة – الرّعية ومعها الحركات في رسالة يسوع التعليميّة.

هذه الأهميّة تفترض تحضيراً وترسيخاً لكلّ الطاقات والمواهب والتقنيّات من أجل عيش هذا الحدث الخلاصي. إنّه اجتماع المؤمنين حول مائدة الكلمة: من هنا تستوحي الحركات اجتماعاتها حول كلمة الله؛ من هنا تساهم الحركات في برنامج الرعيّة التثقيفي والحياتي عبر السهرات الإنجيليّة ولقاءات الكتاب المقدّس، فكلمة الله هي عامود فقري في الجسم الرعوي ونشرها وشرحها والتوقّف عليها هي من أهمّ العناصر التي تكوّن رعيّة المسيح، والحركات في الرعية مدعوّة أن تنمو وأن تساهم في أداء الشهادة لهذه الكلمة عبر نشاطاتها.

تكفينا اليوم إجتماعات جدليّة، وإجتماعات نتوقّف فيها على كلّ شيء، والمطلوب واحد. فما ينقصنا هو مقدّمة حقيقيّة وشخصيّة لِكلمة الله على مستوى العمل الرعوي وعلى مستوى عِيالنا وأبناء رعايانا. فكلمة الله هي روح وحياة وهي مصدر تقديسنا والملتزمون في الحركات مدعوون أن يهيّؤوا ليتورجيا الكلمة في القدّاس التي منها ينطلقون واليها يعودون ويقودون إخوتهم للمصالحة مع الكلمة في لقاء الجماعة، في يوم الرّب.

4- جماعة افخارستيّة – قربانيّة

أيُعقل أن يكون هناك حركات رسوليّة من دون افخارستيّا؟ أيُمكن أن تكون كنيسة من دون إفخارستيّا؟

الرعيّة هي جماعة إفخارستيّا: الإفخارستيّا هي المكان اللاّهوتي الذي تعلن فيه الكنيسة موت وقيامة المسيح ونشترك في حياة المسيح ونتّحد به، في جسده ودمه ومن خلاله بالآب السماوي، بقوّة الروح القدس الذي يحقّق ويكمّل فيها ثمار الخلاص. إنّها القوت والزّاد وهي ضمانة الشركة والوحدة وتجلّي الكنيسة، والإشتراك بالمائدة المقدّسة وبنصيب القدّيسين، وهي التي تجعل من الجماعة جماعة قدّيسين "الأقداس للقدّيسين".

هي يوم الرّب وهي كلّ يوم "يوم الرّب".

كيف تعيش إذاً في أيّامنا الأكثريّة المعمّدة يوم الرّب؟ وإذا قدّسنا فكيف نقدّس؟ أقدّاسنا هو بحقّ عيد القيامة أم أحياناً كثيرة يكون حفلة فولكلوريّة؟... كلّ هذا يفترض وعياً لأهميّة القدّاس في الرعيّة، فالأسبوع كلّه يتوجّه نحو الأحد والأحد نحو الأسبوع.

إنّ دور الحركات جوهريّ هنا، فمن خلال تحضير القدّاس مع بعضنا البعض نتقاسم العمل ولا يحقّ لأحدٍ أكاهناً كان أم علمانيّاً أن يرتجل القدّاس فالمسألة ليست بكثرة القداديس بل بعمق المشاركة. وأمام قدّاس الرعيّة تتراجع كلّ القداديس الخاصّة، فأهميّة الحركات هنا هي أن تنخرط وتختلط بالجماعة الرعويّة، فمنها خرجت ومعها تقوم بدورها، دور الشاهد والمحرّك: خدمة المذبح – خدمة الرعيّة لمساعدة الجماعة في الترنيم – تحضير كلمة الله – المساعدة في نقل القرابين (الأعمال الطقسيّة) – تنشيط ليتورجي: المعموديّة – الزواج – التبريكات...

الجماعة الإفخارستيّة هي قربانيّة: فالقدّاس لا ينتهي داخل الكنيسة بل يتواصل في مشروع قرباني أي تقديم الذات يومياً للآب، والحركة في هذا تساهم مع المسيح في رسالته التقديسيّة: "قدّسهم في الحقّ" وأبناؤها بدورهم ملتزمون في مشروع تقديس المجتمع المدني.

5- خدمة مائدة المحبّة

تبسط الرعيّة مائدة المحبّة لكلّ بعيد وقريب، وكان "كلّ شيء مُشتركاً بينهم": الجماعة المسيحيّة مدعوّة لتجسيد المحبّة من خلال التضامن بين الأخوة: والتضامن سبيل إلى العدالة الإجتماعيّة، ضمن الرعيّة المسيحيّة علينا أن نشهد لإنجيل التطويبات ونضع إنجيل الدينونة كبرنامج أساسي لها. فبيت الكاهن وقاعات الرّعيّة وبيت كلّ فرد من أبنائها هو بيت الضيافة يستقبل المشرّد والجائع والمريض والمتألّم والمهمّش والمنبوذ والبعيد قبل القريب. فمعاذ الله أن تكون الرّعية ومجالسها وفرقها لطبقة معيّنة من الناس (لذوي المجتمعات المخمليّة مثلاً): الرّعية هي بيت الفقراء أوّلاً وهي بيت كلّ انسانٍ يريد أن ينحني ليقبّل أرجل الأخوة ويخدم على مائدة المحبّة، هي للغني وللفقير حتى يلتقيا في مائدة ابن الله، هي واحة التعاضد والتضامن باحترام كلّي للانسان وبصمت القدّيسين.

الحركات مدعوّة أن تعيش داخل فرقها خدمة المحبّة (جميل هو هذا الكيس الذي يمرّ على الأعضاء في الاجتماع)، وأن نساهم في تفعيل هذه الخدمة مع كاهن الرعيّة على مستوى حاجات الرعيّة الكبرى وهنا نشجّع كلّ المبادرات الاجتماعيّة لِحلّ الأزمات ولو بشكل بسيط ومتواضع: عمل – مأكل – تعليم – طبابة... هذا هو نتيجة تضامن الجماعة المسيحيّة.

إضافةً إلى الحاجة المادّية هناك حاجات روحيّة، فكَم من الناس يحتاجون إلى أن نصغي إليهم، فَجميل أن يتحوّل مركز الحركات إلى مركز استقبال وإصغاء ومرافقة للإنسان لا سيّما الأكثر وجعاً.

6- هاءنذا أرسلني

الرعيّة هي كنيسة الزيارة. اليوم في ديناميّتها المجمعيّة: فاتيكاني ثاني – إرشاد رسولي – مجمع ماروني – مؤتمر الحركة... لا يمكن أن تبقى الكنيسة داخل الأسوار أو ضمن مكاتب بيت الرعيّة ونقول للنّاس: تعالوا اليّ... الكنيسة اليوم هي كنيسة تذهب تنطلق إلى العالم وتعيده إلى المذبح، إلى المسيح:

فحدود الرعيّة هي حدود كنيسة واضحة لكنّ حدودها أيضاً هي كلّ إنسانٍ مخلوق على صورة الله ومثاله: هي شعب الله الذي يسير نحو الملكوت وهي كلّ مؤمن ومؤمنة من كنيستي وكلّ مسيحي وغير مسيحي أتقاسم وإيّاه ما يجمعني من قِيَم روحيّة وإنسانيّة في مناخ من اللقاء والمودّة والحوار وتبادل الخيرات.

الحركات داخل الرعيّة هي رسوليّة تُرسل إلى البعيدين أوّلاً ثمّ إلى القريبين. وكم من الشباب ينتظرون رفاقهم الشباب ليعرّفوهم على وجه المسيح بالمحبّة والمرافقة والصداقة ومن ثمّ بالإرشاد.

أبناء الحركات مدعوّون اذاً أن ينخرطوا في المجتمع المدني والثقافي والإجتماعي والسياسي ببُعده الواسع وليس الضيّق كَعلِمانيّين مؤمنون بالمسيح الذي يعطي المعنى لكلّ شيء في هذه الحياة. فهم مدعوّون أن يتفاعلوا مع هذا المجتمع ويحوّلوه إلى فكر المسيح ومنطقه.

مَن يلتزم في الحركات لا يهرب من العالم بل هو من العالم ليساهم في تحويله إلى المسيح. هنا أهمّية الحضور في الرعيّة مع الناس والشبيبة في كافّة الأوساط المهنيّة والثقافيّة... أهمّية الإنخراط في الكوادر الإجتماعيّة على قاعدة: أرسلني.

7- ونؤمن بكنيسة رسوليّة مقدّسة.

الرعيّة تجسّد حقيقة الكنيسة: حيث الأسقف هناك الكنيسة. والأسقف يتابع مهمّة الرسل، والحركة في الرّعية هي حركة كنسيّة أي رسوليّة: أساسها الرسل وتعليمهم. من هنا تنمية حسّ الإنتماء إلى الكنيسة والإفتخار بهذا الإنتماء.

تعيش الحركات الإنتماء الكنسي من خلال:

إنتمائها إلى الرعيّة (فهي يد الكاهن اليُمنى في الخدمة):

تفعيل الحياة الروحيّة وخدمة المحبّة في الرعيّة، تفضيل الأوقات الرعويّة العامّة والمشتركة: إنّها حركات من أجل الرعيّة ولا سمح الله أن تكون يوماً ما رعيّة داخل رعيّة: عليّ أن أنقص ولها أن تنمو (روحانيّاتها الرعويّة).

إنتماء إلى الأبرشيّة عبر لجانها ومجالسها ومشاركة في برامجها العامّة.

إنتماء إلى الكنيسة الجامعة وتبنّي واعٍ لمواقفها وتعاليمها لا لتبنّي السهل والمريح وترك الشاق والصعب.

فالنَعَم للمسيح في الكنيسة هو مشروع حمل الصليب بطاعة كاملة لإرادة الآب وهنا تشهد الحركات للقيامة في العالم المعاصر: هناك ميل إلى السهل والسهولة وخرق المواجهة، فحمل الصليب يُدخِلُنا في مشروع القداسة. فما أجمل أن نكون قدّيسين ولْيرحم الله ضعفنا.

إذاً، إنتماء إلى الكنيسة وتبنّي تعليمها في ميادين الحياة الإفخارستيّة اليوميّة:

وهنا أطرح مواضيع جوهريّة على مصيرنا: الهجرة – الفصل بين الإيمان والحياة المهنيّة والإجتماعيّة (إزدواجيّة).

8- النَعَم المريميّة

روحانيّة الرعيّة مريميّة بامتياز لأنّها كنيسة والكنيسة هي صورة لِمريم العذراء. والحركات عليها أن تكون على مثال مريم بروحانيتها أي أن تكون جاهزة لِتقول نعم لِمشروع الرب وحاضرة للاصغاء لصوته ومَن يصغي له يصغي لأخيه الإنسان (من هنا أهميّة الإصغاء ضمن الجماعة وضمن الرعيّة) نشدّد على أهميّة مراكز إصغاء للعائلات وللشبيبة...).

روحانيّة مريميّة بالصلاة (صلاة المسبحة)، روحانيّة مريميّة بعيش بساطة الناصرة على المستوى الفردي والعائلي والرعوي. روحانيّة مريميّة بعمقها: "تحفظ كلّ شيء وتتأمّل به في قلبها". روحانيّة مريميّة للنموّ الدائم في المسيح والإتحاد به، مقياسها هو المسيح. نشهد له في العالم المعاصر ونجسّد الشهادة في الجماعة الرعويّة حتى تكون الرعيّة واحدة لراعٍ واحد.

تعليم  - الجمعة 28 تشرين الثاني 2003 – عنايا