العودة إلى حضن الآب - الأب مارون مبارك

 عيلة مار شربل
"وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات" رسل 2/42
العودة إلى حضن الآب
عيلة مار شربل - الأب مارون مبارك –
عنايا 26 شباط 2005 –رياضة روحية

ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو اقرب الى اللغة العامية.
الله معكم
نلتقي مجدداً اليوم تحت نظر الرب وعنايته وبركته وتحت أجنحة القديس شربل.

موضوع لقاءنا الروحي: العودة إلى حض الآب.
العودة إلى حضن الآب في حياتنا الروحية هي سرّ التوبة والمصالحة والاعتراف. هيَ عودة مباشرة إلى قلب الآب. في الخطيئة بعدٌ وانسلاخ عن قلب الرب أما في التوبة فتقرّب وإعادة بنيان للمحبة.
اخترنا هذا الموضوع في زمن الصوم، زمن العودة إلى حضن الآب. والصوم هو أكثر من وقت، هو حالة، حالة تقرّب من الربّ كما تقرَّبَ هوَ منّا بتجسده حتى الموت والقيامة ليجعلنا الأقرب إليه. لذلك فإن طابع هذا الصوم هو طابع قرباني، قرّب الربّ نفسه لأجلنا لنقرّب بدورنا ذواتنا إليه ونتشبه به.

نتوقف في "العودة إلى حضن الآب" عند ثلاثة حقائق من الكتاب المقدس:
أولاً: نكتشف أكثر وأكثر أبوة الله. أبوة الرب التي تشبه أبوة وحنان الأب. الأب الذي يدلل ابنه ويرى فيه شخصاً ينطلق للحياة. على الصوم أن يوصلني إلى النموّ أكثر فأكثر في علاقتي مع الرب، إذا كنت أعيشه بتصميم وبنظرة مستقبلية. فعلى إماتتي ألا تكون مفروضة عليّ إنما أعيشها بأصالتها المسيحية لتوصلني إلى هدفي وهوَ النموّ والكبر في حقيقة علاقتي بالرب. فالصوم هو التركيز العميق، أكتشف خلاله وجه الآب الذي يحبني بكل الحب الأبوي.
النبي هوشع الفصل 11/1-11، يوضح لنا صورة الله الأب، نلاحظ في هذا النص للنبي هوشع أربع درجات:

الدرجة الأولى: الدعوة: دعوة الله لشعبه من مصر يسبقها حب مميز، "أحببتكم فدعوتكم ونشلتكم من حالتكم". الحبّ الذي يوجهه الرب ويعيشه نحو أبنائه هو أساس هذه العلاقة، ينادي إسرائيل بابنه، أي أن حبه لشعب إسرائيل هو حبّ الأب لإبنه، حبّ طبيعي خالٍ من المصلحة، منبثق من طبيعة الحياة.
الدرجة الثانية: العناية: إذا دعوتكم فأنا أعتني بكم. يعتني بشعبه. يحمله يرفعه، يفتح أمامه الطريق. الحب يدعو ليغيّر وليعتني.
الدرجة الثالثة: "بخّر الشعب الأصنام وعبد آلهة أخرى": كل عناية الرب وحبه قوبل باللاعرفان والتخلي. تخلى الشعب عن الربّ الذي أعطاه كل ما في قلبه من عناية وخلاص. ولكن الرب يعود فيقول (الآية التاسعة) "كيف أتخلى عنه". هذا لأنه لا يستطيع أن يكون إلا حبّ.
الدرجة الرابعة: الغفران: لا يستطيع الرب ترك شعبه لأنه هو بذاته يشكل الحبّ والغفران. يعود ويقترب منه من جديد، يجدد العلاقة معه ويعيده إلى بيته، إلى بيت الآب.

نلاحظ في علاقة الرب مع شعبه تطوّر نابع من الحبّ الأبوي. ينبع من قلب الآب ويصبّ في حياة الإبن الذي يعود إلى قلب الآب. قصة الإبن الضال تُجسد هذه الحركة. أخبرها يسوع فجعلنا نلمس الحبّ الإلهي. الحب يخلصني يدعوني إلى حياة جديدة. يمنحني العناية ويعود بي إلى حضن الآب. فلذا لا يجب أن أبحث في توبتي عن طرق تكفير لأزيل الشعور بالذنب والخطيئة بل ابحث عن مستوى حبّ الآب في حياتي لأنه هوَ الوحيد الذي يرفعني ويعيدني إليه.

ثانياً: نعيش في زمن الصوم حالة تقرّب تدفعنا لنكتشف حنان الآب وانحنائه نحو أبنائه. حنان الآب هو الذي يدفعنا نحو حقيقة الخلاص، يضع يده على جرحنا وخطيئتنا ويشفينا من هذا الجرح، يده يد طبيب جراح يفتح الجرح ليزيل المرض. هو يكبرنا وينمينا وينهينا عن العودة إلى الخطيئة. في لوقا 19 قصة زكا العشار إيضاح لهذا الأمر. هو إنجيل مصغر في قلب الإنجيل لأنه يعلمنا أن ابن الإنسان تجسد ليخلص الإنسان ويرشده إلى خلاص نفسه. وهذا ما حصل مع زكا عندما قابل يسوع.
في لوقا 18، يسوع يشفي إنساناً أعمى ومن ثم أتى زكا المُبصر ليبحث عن يسوع. انتقل هذا الأعمى من اللامعرفة إلى المعرفة لم يكن يبصر يسوع ومن ثم أبصره, أما زكا فقد رأى يسوع فانتقل إلى إتباع يسوع والتشبه به، وهذا ما يحدث في حياتنا الروحية، في البداية لم نكن نبصر يسوع وعندما نعرفه ونبصره نتبعه لنعيش معه بشكل أعمق أقوى فنتشبه به.
من اللامعرفة إلى المعرفة إلى الاتباع يعود الإنسان إلى حضن الآب، ليتشبه به.

خمس محطات مهمة في نص زكا:
1- المحاولة: "حاول أن يرى يسوع". العودة إلى حضن الآب بفعل التوبة تبدأ بالمحاولة. حاول زكا فرأى يسوع.
2- "تقدم وصعد على جميزة ليرى يسوع" ترجم المحاولة بعملين هما التقدم والصعود وتخطي الحواجز. ترجمة المحاولة بالعمل تشكل الحياة الروحية الكاملة، الإحساس بالداخل والترجمة بالخارج.
3- "فنزل على عجلة، وأضاف يسوع بفرح" نزل وأضاف، كانت نتيجة جرأته بالتقدم والصعود التقاء عينيه بعيني يسوع فدعاه يسوع وأعاده إلى الأساس فنزل إلى بيته. يدعونا يسوع للتفتيش عنه ولملاقاته من عقر دارنا وفي حياتنا الطبيعية التي نهرب منها. اختبر زكا اللقاء مع يسوع كتلميذي عمّاوس فأكل معه. اختبر زكا اللقاء مع يسوع بالنظر إليه من الجميزة، اختبر حضوره بعمق حياته وفي منزله واختبره على المائدة رمز القربان عندما كسر الخبز معه. كل هذه الاختبارات توصلنا إلى المحطة الرابعة.
4- "ما أخذته من الناس أردّه أربعة أضعاف وأعطي نصف أموالي" عندما يمتلئ قلبنا من حبّ الربّ نعطي وبفيض، أما إذا كان فارغاً من حبّ الربّ فلا شيء آخر يستطيع أن يملأه. الحبّ الإلهي جعله يعطي بكثرة وبدون خوف.
5- "ابن الإنسان جاء ليفتش عن الإنسان فيخلصه" ذهب زكا يبحث عن يسوع فإذا بيسوع يبحث عنه بنفسه. بحث زكا عن يسوع ليراه، أمّا يسوع بحث عن زكا ليخلصه. العودة إلى حضن الآب هي وصولنا إليه وتكفّله هوَ بكل ما تبقى. لا أستطيع تغيير التاريخ ومحو الخطيئة بل المطلوب مني هو حبّ الربّ والشعور بحنانه وتقديم الذات له، فهو الذي يغيّرني ويجعل مني إنساناً جديداً. استراح زكا عندما منحه يسوع الخلاص، هذا هو حضن الآب.
ثالثاً: التعرف على غفران الآب. مغفرة الربّ تختلف عن مغفرتنا المتعلقة بمصالحنا. هو يغفر بدون مساومة، يغفر ليمنحنا الحياة جل ما يريده هو إحياؤنا. إرادة الأب هي أن يحيا الخاطئ ولا يموت. علاقة غفرانه معنا علاقة صافية مجانية. قصة الابن الضال في لوقا الفصل 15، هي مدرسة حقيقية للغفران. غفر الأب لابنه الصغير وكذلك علم الأخ الكبير أن يغفر لأخيه. تستوقفنا هذه القصة في ثلاث محطات:
1- استعاد الابن حالة البنوة بعودته إلى حضن الآب. نصبح أبناء الله بقدر تقربنا منه. استعاد البنوة أي ولد من جديد.
2- كل الرموز من ثوب جديد وخاتم وحذاء تدل على إعادة الآب البنوة للابن. عاد الابن ليكون عبداً عند أبيه، فألبسه الآب بحنانه البنوة من جديد. كانت توبة الإبن على مستواه أراد أن يكون عبداً وخادماً، أمّا غفران الآب فكلّه غنى يرفع إلى الأعلى، يعيده إلى حضنه، لأن الآب لا يقبل ابنه مذلولاً يعيده إليه ويعيد له مسؤولياته ومركزه في الحياة. غفران الآب هو بناء جديد وحياة جديدة وانطلاقة جديدة.
3- الإحتفال: تم الاحتفال بعملية المصالحة والغفران. وعملية الاحتفال لا تكتمل إلا بمصالحة الآخر، أي بالعودة إلى حضن الجماعة. لا تكتمل العودة إلى حضن الآب إلا بالعودة إلى حضن الجماعة، فيفتح لنا فيها الربّ المجال للعمل على هذا الحبّ الإلهي الذي زُرع فينا فيتفرع إلى البشرية جمعاء. بالمصالحة نحصل على نفس رغبة الآب بتوسيع الغفران من خلال قلبنا ليشمل البشرية جمعاء، بهذا نجدد ذاتنا وكل من هم حولنا.
نحن مدعوون أن نعيش حبّ الآب (هوشع) وحنانه (زكا) وغفرانه (الإبن الضال) ليس فقط في زمن الصوم إنما في كلّ وقت فنشعر ببنوتنا وبحرية أبناء الله، وكذلك بالمسؤولية للمحافظة على ميراث الآب.
العودة إلى حضن الآب ما هي إلاّ انطلاقة إلى حياة الابن، فنعيش حياتنا كأبناء الله
آمين.