على طريق عمّاوس - الأخت ماري أنطوانيت سعاده

 "رياضة روحيّة - عيلة مار شربل في سيّدة النور فيطرون - الأحد 6 تشرين الأوّل 2002"
  موضوعنا اليوم من إنجيل القديس لوقا.
 على طريق عمّاوس   ( لوقا 24/13- 35 ).
 
"وإذا باثنين منهم كانا ذاهبين، في ذلك اليوم نفسه، إلى قرية اسمها عمّاوس، تبعد نحو ستّين غلوة من أورشليم. وكانا يتحدّثان بجميع هذه الأمور التي جرت.
 وبينما هما يتحدّثان ويتجادلان، إذا يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما، على أنَّ أعينهما حجبت عن معرفته. فقال لهما: "ما هذا الكلام الذي يدور بينكما وأنتما سائران؟" فوقفا مكتئبَين. وأجابه أحدهما واسمه قلاوبا: "أأنتَ وحدك نازل في أورشليم ولا تعلم الأمور التي جرت فيها هذه الأيّام؟" فقال لهما: "ما هي؟" قالا له: "ما يختصّ بيسوع الناصري، وكان نبيّاً مقتدراً على العمل والقول عند الله والشعب كلّه، كيف أسلمه عظماء كهنتنا ورؤساؤنا ليُحكم عليه بالموت، وكيف صلبوه. وكنّا نحن نرجو أنّه هو الذي سيفتدي إسرائيل. ومع ذلك كلّه فهذا هو اليوم الثالث مذ جرت تلك الأمور. غير أنّ نسوةً مِنّا قد حيَّرننا، فإنّهنّ قد بكرن إلى القبر فلم يجدن جثمانه فرجعن وقلن إنّهنّ أبصرنا في رؤيةٍ ملائكةً قالوا إنّه حيّ. فذهب بعض أصحابنا إلى القبر، فوجدوا الحال على ما قالت النسوة. أمّا هو فلم يرَوه". فقال لهما: "يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الإيمان بكلّ ما تكلّم به الأنبياء. أما كان يجب على المسيح أن يعانيَ تلك الآلام فيدخل في مجده؟" فبدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسّر لهما في جميع الكتب ما يختصّ به. ولمّا قربوا من القرية التي يقصدانها، تظاهر أنّه ماضٍ إلى مكانٍ أبعد. فألحّا عليه قالا: "أمكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار". فدخل ليمكث معهما. ولمّا جلس معهما للطعام، أخذ الخبز وبارك ثمّ كسره وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما. فقال أحدهما للآخر: "أما كان قلبنا متّقداً في صدرنا، حين كان يحدّثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟"
 وقاما في تلك الساعة نفسها ورجعا إلى أورشليم، فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين، وكانوا يقولون إنّ الرب قام حقّاً وتراءَى لسمعان. فرويا ما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز". 
 
نركّز من خلال هذا النص على: "يسوع معنا". يسوع معنا، كما جاء في بداية إنجيل متّى: "ستحبل وتلد ابناً سمِّه يسوع أي عمانوئيل أي إلهنا معنا". وينتهي إنجيل متى أيضاً: "إذهبوا في الأرض كلّها وعلمّوا...ها أنا معكم باقٍ إلى منتهى الدهر". إلهنا معنا أضحى له اسمٌ هو عمانوئيل، هو يسوع. إذا أعدنا قراءة الكتاب المقدّس العهد القديم نلاحظ أن الرب - إلهنا معنا- رافق إبراهيم، يعقوب وموسى، رافق شعبه من خلال "لا تخف أنا معك". "أنا معك" في العهد القديم، تترجمت وتجسّدت بشخصٍ اسمه يسوع، عمّانوئيل، أنا معك.
 
نلاحظ بالعودة إلى الآية 15 من النص، أنّ الرب يسوع قام من بين الأموات والخلاص تمّ، لكن تلاميذه كانوا لم يختبروا بعد القيامة مما يعني أنّهم ما زالوا في حالة ما قبل القيامة أي حالة تعاسة وحزن وفشل ويأس. "وبينما هما يتحدّثان ويتجادلان إذ يسوع نفسه قد دنا" ويا لجمال هذه الكلمة، دنا، اقترب، جاء، كأنّه اجتاز المسافة كاملة من عند الآب إلينا. فمسيرة يسوع برمّتها هي دنوّ من بني البشر وتقرّب منهم، إنّه يبحث عن فسحة للتقرب منهم، عن زاوية إليهم. ويظهر لنا من خلال ما سنقرأه الآن، خطّ يسوع التربوي ومدى محاولاته مع كلّ واحدٍ منّا كما مع تلاميذه، فهو أبداً يدنو، يقترب، يسأل عن حالة كلّ واحد منّا حتّى بالرغم من عدم تعرّفنا عليه...
"قد دنا منهما وأخذ يسير معهما" لنطرح على ذواتنا هذه الأسئلة بصراحة: هل أؤمن بأنّ يسوع كان معي في هذا النهار؟ هل كان حاضراً معي لمّا استيقظت وذهبت إلى العمل وصادفت مشاكل مع هذا وذاك ألخ... والى أي مدى كنت أنا معه اليوم؟
"أخذ يسير معهما" - وعلينا وضع خطّ تحت هذه العبارة- حتى لو أعينهما حجبت عن معرفته. هذه حقيقة وواقع، يسوع معنا إنّه يمشي معنا حتى لو كنّا غائبين، ومن هنا الجملة الشهيرة عند القديس أوغسطينس: "أيّها الجمال القديم الجديد الذي كنت أبحث عنه في الخارج، ويا لحسرتي، إذا بكَ في الداخل وأنا في الخارج". وهذا الإكتشاف الرائع بدّل حياة القديس أوغسطينس كلّها، فقد اكتشف أن يسوع هو الساكن في القلب وأنا الساكن خارجاً عن ذاتي. "أخذ يسير معهما على أنَّ أعينهما حُجبت عن معرفته". وبدأ يسوع يستدرج التلميذين وسألهما عمّا يتكلّمان، فسخرا منه وقالا له: أغريب أنتَ عن أوراشليم؟ ألا تعلم بما جرى وبما حدث؟ وبما أن هذا الموضوع كان همّهما الوحيد، أخذا يخبرانه عن ذاتهما، عن فشلهما وتعاستهما، عن الرجل الذي اعتبراه نبياً فتركا كلّ شيءٍ وتبعاه وانتظرا منه أن يفتدي الشعب ويكون النبيّ المقتدر عند الله فخيّب أملهما، عن النسوة المزمعات أنّهن رأين ملاكاً وقلن أنّه حيّ.
عندها هنا، تبدأ مسيرة القداس، أتى يسوع اقترب... جاء... دخل... أخبرناه... مسيرة تطهيريّة مسيرة توبة مسيرة إقرار، نضع على المذبح ما نحن به من خطايا وتقدمات وأفراح وأحزان.
وهنا يقول لنا يسوع: يا قليلي الإيمان. إذا أعدنا قراءة الأناجيل الأربعة، نرى كم مرّةً يسوع  وبأيّةِ حسرةٍ وبأيِّ لطفٍ وأيِّ عنادٍ يعود لتلاميذه ويسألهم: ماذا تريدون بعد؟ يا قليلي الإيمان، قليلي الفهم وبطيئي القلب. ما نفع قراءة التوراة والكتب إذا لم تفهموا؟ "وأخذ يفسّر لهم الكتب" من موسى سفر الخروج، قصّة الله مع شعبه، مع إبراهيم، مع يعقوب، مع إسحاق، مع موسى، مع داود، أخبرهم قصّة العهد كاملة، فسّر لهم وعد الله بالخلاص. وهنا يكمن معنى قراءة الكتب المقدّسة في القداس مع الوعظ والتفسير.
الله معنا يسوع معنا هو عمّانوئيل سائر معنا وسيبقى، شِئنا أم أبيْنا، تصميمه سائر معنا إلى المنتهى. هذا لا يكفي إذا لم يلقَ جواب عند البشر.
تظاهر يسوع بالذهاب، لماذا؟ لكيّ يصرّوا على بقائه، أرجوك لا تذهب، إبقَ معنا، أمكث معنا، ووجدوا له سبباً، فقد حلّ المساء وإلى أين ستذهب؟ كأنه بتلك المسيرة، مسيرة التفسير ومسيرة السؤال والجواب، أزاح يسوع عن قلبهما القشور، أزاح عن قلبهما وذهنهما الغلاظة، ففهموا ولمّا فهموا أصبح قلبهم يشتعل من الداخل، فتمسّكوا به ورجَوه أن يمكث معهما.
وهذه الكلمة أساسيّة في حياتنا، أمكث معنا وهو دائماً معنا. ولكن عندما أسأله، أكون عندها أدركتُ أنّه معي. لهذا علينا أن نطلب ونشدّد، ألا يدري الرب ما أريد؟ طبعاً يعلم ويفوق معرفتنا أيضاً، ولكن ما الجدوى إذا علم هو وغفلتُ أنا؟ الرب يحبّ التعاطي مع أشخاص أذكياء، الرب يحب التعاطي مع حرّيتنا، يحبّ التعاطي معي ويحب أن أعبّر له عمّا أريده كما الأبّ مع ابنه، يحبّ أن أعلمه بما أرغب به وبما لا أرغب به.
"أمكث معنا، أمكث معنا فقد حان المساء ومال النهار". هذا يعني أنّنا أصبحنا لا نرى، لا ندري إلى أين نذهب، إبقَ معنا فأنت النور. عندما ندخل في ظلام الليل نصبح كالأطفال نملك هواجس ومخاوف وأساطير. أمكث معنا، فعالمنا اليوم مظلم. ونحن  بحاجةٍ إلى نور، نور يخاطبنا من الداخل؟ لماذا تجتمعون للصلاة، لما تذهبون إلى عنّايا، لما تقيمون الرياضات الروحيّة؟ أليس لكي ينجلي النور أمامكم وتبصروا، تبصروا أين تسيرون وكيف تسيرون وبأيّةِ طريقةٍ تسيرون، إذا كانت خطواتكم صحيحة، إذا كان لحياتكم معنىً ؟؟؟ 
أمكث معنا، هذه هي الصلاة، ردِّدوها آلاف المرّات أمكث معنا أمكث معنا أمكث معنا.
عندها فهم التلميذان، "فانفتحت أعينهما" عند كسر الخبز. وحسب النص أخذ يسوع الخبز بارك وكسر وقدّم لهما ليأكلا، عندها فقط، تمّت المعجزة. يوميّاً وفي كلّ تكّة تقام 10 قداديس على الأقل في الكرة الأرضيّة، أثناء كلّ تكّة في العالم، يُحتفل بتقديس جسد الرب ودمه. ولكن لماذا الأرض ما زالت يابسة، قاسية، مظلمة؟ لأنّ البشر يتغافلون عن هذا السر العظيم. لذلك عند احتفالنا بالقداس الإلهي أرجوكم أن تهيّئوا فعلاً قلوبكم ليكون لهذا القداس طعمة مميّزة، لكي يتحرّق قلبنا في هذه الذبيحة ونقول ليسوع إمكث معنا وابقَ معنا سنأخذك معنا أينما كنت. هو سجين في يت القربان، سيترك سجنه ويسكن فينا. نسجنه، نحوّل بيتنا وقلبنا بيت قربان. هذا هو المطلوب. لذا بعد أن قال له التلميذان إمكث معنا، أصبح بإمكانه الإختفاء، اختفى عن أنظارهما، ولكنّه مكث في قلبيهما، فأصبح بإمكانهما الرجوع إلى أورشليم فرحَين، مهللَين منشدَين، ذهبا ليُخبرا، ذهبا ليشهدا. فاكتشفا أنّ الرب كان هناك أيضاً. فالله الذي فيَّ يخاطب الله الذي في أخي وهكذا تتمّ المعجزة على الأرض. أرأيتم الآن أبعاد الذبيحة والقدّاس والإفخارستيا؟ لها أبعاد حياتيّة وخلاصيّة.
 
خلاصة الرياضة:
نحن في المسيح، لأنّه هو المجال، هو المساحة، هو الفسحة التي من خلالها وبها نلتقي بالآب، بها تتمّ المائدة يتمّ اللقاء. الأب يجلس مع أولاده على مائدة واحدة، ويسوع هو المائدة، هو الخبز المقرّب، هو حمل الفصح، هو الكاهن الذي يخدمنا، يضع الوزرة وينحني على أرجلنا ويخدمنا. نحن فيه لأنّه السماء على أرضنا وبه نلتقي نحن بالسماء وبالآب السماوي وندعوه أبانا.
نحن معه لأنّه يسير معنا ويسير ويسير... وكلمة سار معهما في هذا النصّ هي مسيرة الله منذ الخلق حتّى رأيناه بيسوع يسير مع شعبه. وأظنّ أنّ هذا ما ترغبون به أنتم في العمق، ليس فقط أن تجلسوا معه نهاراً أو نصف النهار، بل أن تسيروا معه العمر كلّه.
عندها أستطيع أن أردد له مع صاحب المزمور "ساعات عمري بين يديك كلّ ساعات عمري، إذا صعدت إلى السماء فأنت معي أو انحدرت إلى الجحيم فأنت معي وإذا قلتُ فليغمرني الليل، أنت لا ليل أمامك". أمكث معنا، "وجهك يا رب ألتمس". وعندما تشعرون بالغلاظة كالكلس تغطي شرايين قلوبكم وعقولكم، اصرخوا "وجهك يا رب ألتمس"، تعال. صراخنا هذا لا يعني أنّه غائب، بل إنني مستعدّ لأفتح له الباب، تعال، وجهك يا ربّ ألتمس. و يقول صاحب المزمور: "تأمّلوا فيه تشرق جباهكم" فتصبحوا مشعّين مثل قناديل صغيرة أينما اتجهتم تبعثون النور وسط الظلمات.
أزّودكم بهذه الكلمات من المزمور55:
"أنت يا نَدّي يا رفيقي يا صديقي يا من تربطني به أحلى معاشرة".
 
آمين.