الصوم خدمة المحبة

Fasting-is-a-service-of-love

(ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو اقرب الى اللغة العامية)

هذا أوّل لقاء لنا في زمن الصوم، ولكي ندخل في موضوع المحبّة والخدمة، أريد أن آخذ وجه من أوجه الصوم قليلا ما نتكلّم عنه، وجه من أشعيا النبي، وقد استشهد به يوحنا فم الذهب في النصّ الذي قرأناه الليلة في وقت الصلاة، والذي يركز عليه النبيّ بتعابير أصبحت مألوفة بالنسبة لنا وهيَ أن الصوم ليس الإنقطاع عن الأكل فقط، الصوم هوَ كلّ الفضائل وهو أن تهتمّ بأخيك.

لكن الفكرة التي تهمّنا أن نتكلّم عنها وهي مكمّلة لفكرة آشعيا أو بالأحرى تفسّرها بلغة تتناسب مع عصرنا أكثر. ما هو الصوم؟ ولماذا الصوم؟ وما هي أهمية الإنقطاع عن الطعام؟ وماذا يصبح معنى أن آكل بعد انقطاع عن الطعام؟

وهذا كلّه كيف يكون قُربانيّ؟ إفخارستيّ؟ كيف يكون مرتبط بسرّ الإفخارستيا؟

لا صوم حقيقي إذا لم يكن محوره سرّ الإفخارستيا، لأنّه الصوم في النهاية هو عامل مشترك بين كلّ الأديان من دون إستثناء، الكلّ يتكلّمون عن الصوم كامتناع عن الأكل، كتنقية للنفس، الصوم كمكان للتوبة والندم أو حتّى الصدقة.

لكن المسيحية ماذا يميّزها وما هو مفهومها للصوم وكيف يكون الصوم مرتبط بالإفخارستيا؟

منذ سنتين أو ثلاث سنين تأملنا سوية بموضوع الصوم، إنّما اليوم نطرح وجه جديد أو نظرة جديدة لا تتناقض مع الأولى ولكن تُكملها.

لأطرح على نفسي سؤالا: ماذا يعني أن آكل؟ من البديهي أن أجاوب: أي أن أؤمّن القوت الذي يؤمّن لي الحياة. ولكن لأفكّر قليلاً. لكي أؤمّن حياتي ماذا أفعل؟ إنّي أسلب كائن حيّ حياته. مثلاً، أن أقطف تفاحة عن أمها: تموت؛ أصطاد سمكة: تموت، أذبح دجاجة: تموت؛ أنا آكل لحوم وها يعني أنه هنالك حيواناً يموت.

أنا آكل معاناها تلقائياً أن هنالك شيء يموت حُكماً، لدرجة أنه لكي آكل ممكن أن أقتل.

إذاً واضح أنّه في كلّ مرة أريد أن أضمن حياتي أكون أسلب حياة أحد أو شيء.

غريب! أنا لا أحيا إلاّ على حساب آخر؟ سؤال خطير جداً.

الصوم هو قرار آخذه لكي أعبّر فيه أنّ كلّ كائن حيّ له الحقّ بالحياة ولو كان بصلة أو دجاجة أو خسّة...

هذا موقف أتّخذه كمسيحيّ، كلّ هذه الكائنات الحيّة لها حقّ بالحياة وليس من حقّي أن أسلبها الحياة، هذا الحقّ لا يعود لي. ولكن بالمقابل يقول لنا الربّ في سفر التكوين "تسلّطوا على كلّ وحوش الأرض"، ومعناها أنا الذي أعطيتها الحياة أهِبُها لكم. هي عطيّة وعندما أمتنع عن الأكل ثم أعود فآكل عند الظهر أو المساء كما يقول يوحنا فم الذهب (لأن الصوم المسيحي أصلاً كان من الفجر حتّى غروب الشمس)، أنا أكون أعبّر للربّ عن إمتناني لعطاياه، عندها يصبح تعاطيَّ مع الأشياء إنطلاقاً من إنفتاحي على نعمة الربّ وليس إنطلاقاً من فكرة التملّك. يصبح تعاطيّ مع الأشياء تعاطي فقير ينتظر عطيّة الربّ. نتذكّر المزمور "تبسط يدك فيشبع". وبالتالي يصبح الطّعام بحدّ ذاته فعل شكر، وما الإفخارستيا سوى فعل شكر.

لنذهب إلى ابعد: الطعام الوحيد الذي آكله، وهو مات لكي يعطيني الحياة، هو يسوع المسيح. أيّ طعام آخر آكله، هنالك كائن حيّ سوف أميتُه إلاّ يسوع المسيح؛ "أبذل ذاتي من أجلكم... خذوا كلوا هذا جسدي... خذوا اشربوا هذا هو دمي."

هذا وكأنه عبر الطبيعة المخلوقة وعبر كلّ الطعام الذي من خلال صومي أختبره عطيّة من الربّ أشكره عليها. كلّ هذه تهيّئني للعطيّة الكبرى، عطيّة إبنه طعام لي. إبنه الذي قرّر أن يموت ليصير طعام لي ليس الذي أميته ليصير طعام لي. صحيح أنا صلبته، في مكان ما صحيح أنا قتلته، لكن يسوع بفعل موته كان يتمّم إرادة الآب وليس إرادتي أنا.

إذاً في كلّ صوم أنا أعيش صورة مسبقة للإحتفال الإفخارستيّ، المناولة، التى هي صورة أعطاني إياها الربّ بالذات، عيّشني الإفخارستيا من لحظة الخلق الأولى حتّى أوصلني إلى القمة بيسوع المسيح وإلى نهاية النهايات في الملكوت.

عندما أعيش الصوم هكذا، لا اعود ابذّر، فأنا لا أقتل لأتلذّذ، لا أعود أقبل بالشراهة، يأتي الإعتدال في الأكل والشرب، ليس كفضيلة ممكن أن ألقاها فقط عند غيري، إنّما الإعتدال يأتي كرغبة لعدم تملك الأشياء، فأقبلها كعطيّة من الربّ، أقبلها بقدر ما أحتاج وأعي بالنهايةً أنّ العطيّة الكبرى التي لا عندي فيها لا إعتدال ولا تريّث ولا أشبع منها هي الإفخارستيا، هناك تستطيع أن تكون شره بقدر ما تريد لأنك لا تميت أحدًا، هو يموت لأجلك... (الشراهة بالإفخارستيا ليست تملّك). إذًا عش الأمور وكأنها عطيّة بالشكران.

من هذا المنطلق نريد أن  ندخل بموضوعنا: "محبّة وخدمة".

الإنسان الآخر أو الجماعة الأخرى أو العيلة الأخرى، أي آخر، إذا أردت أنا أدخل في أبعاد الصوم الحقيقية، لا أستطيع بأيّ حالة من الأحوال أن أعمل منه مادة إستهلاكية، يعني أنّه لا يكون بأيّ حالة من الأحوال ملكي، أعمل به ما أشاء. لا يحقّ لي.

في هذا المكان عليّ أن أعمل فعل صوم. وهذا لا يقتصر على زمن الصوم، يقتصر على كلّ لحظة من حياتك على حياتك كلّها. ولا أستطيع على مزاجي أن أقوم بفعل صوم. أنا الذي عرفت أن أحترم الطبيعة وأحترم كلّ ما في الطبيعة ولا أقبل أن آخد منها شيئاً إلاّ انطلاقاً من قبولي لعطيّة الربّ، عليّ أن أحترم كلّ إنسان إلى أبعد حدود الإحترام ولا أريد أن أفترسه. وأكثر من ذلك أنا الذي اختبرت حبّ الله لي، وأي الله؟ الله الذي نزف حياته حتّى أنا أتلقاها، أنا الذي اختبرت هذا الحبّ، عليَّ أن أعيشه وإلاّ فأنا أكذب على نفسي إذا قلت أنّني أنا اختبرت حبّ الله لي؛ بتعبير آخر، عندما أسمع يسوع يقول لي "خُذْ وكُلْ هذا هو جسدي" هو يقول لي بذات الفعل "أنتَ قُلْ لأخيك: خذْ وكُلْ هذا جسدي. لا مساومة في الموضوع. إذا أنا ذقت طعم هذا الحبّ، وكم هو طيّب، طيبة هذا ال"يسوع"، طيبة هذه القربانة، إذا ذقت هذه الطيبة فهذا يكفيني.

ولكن إنتبهوا، هذه الطيبة تصبح مرّة إذا لم أذوّقها لغيري. هي طيبة، خروج مستمر يطلع من الآب بالإبن تدخل فيّ، ومنّي تخرج عبر الإبن للآخر ومن الآخر للآخر... هكذا ندخل في عمق شراكة مع الإنسان إنطلاقاً من حبّ الربّ الإفخارستيّ. وهنا نوعان، إنسان اختبر عمق هذا الحبّ بطريقة واضحة ووصل للإفخارستيا، وإنسان يريد أن يعيش الحبّ لكنّه لم يختبره كفاية ولم يصل للإفحارستيا. ولكن انتبه، الربّ مشتاق للّحظة التي سيصل فيها هذا الإنسان للإفخارستيا. إذا كان مسيحيّ خاطئ وغير قادر أن يتناول أو إنسان غير مسيحيّ لم يختبر بعد عمق هذا الحبّ.

لذلك، على الأكثر، أن هذا الحبّ أحسّسُه للذي لم يختبره بعد، وأَوْلى بي أيضاً أن أحسّسه بالتحديد للذي لا يعرف بعد أن يحبّني، لأنّه لا يوجد حل ولا مخرج ثانٍ لكي يحبّنا الآخر إلا إذا أنا أحببته. ليس في باب آخر ليحبّنا.

من هنا ينبع مفهوم الخدمة، الأساس هو الحبّ وليس الخدمة، الخدمة لغة، هي الطريقة التي من خلالها أقول للآخر "أحبك". تذكروا كلمة يوحنا برسالته الأولى: "لا تكن محبّتنا بالكلام أو باللسان، بل بالعمل والحقّ". كلمتان مهمتان جداً. العمل وحده لا يكفي وأكبر برهان هو الإبن الأكبر بمَثَل الإبن الشاطر: "كم لي من السنين أخدمك ولم أخالف لك وصيّة قط، وأنتَ ما أعطيتني جدياً أتنعم به مع أصحابي". هذا الإبن الأكبر ليس في الحقّ، الحق أنّه إبن وليس أجير يريد إجرته، عاش بالعمل وبالكلام نعم، لكن ليس بالحق، وبالتالي حبك ليس حباً، وطاعتك عبوديّة وليست خدمة، لأنك لست في الحقّ.

إذاً كلّ خدمة يؤديها المؤمن بيسوع المسيح (ولا اتكلم هنا عن كلّ خدمة إنسانية اتكلم عن المؤمن بيسوع المسيح) لا تعبّر عن الحبّ بالعمل والحقّ هي عبودية، وليس فيها شيء من حريّة أبناء الله. وأول شيء إذا كنت تريد أن تقوم به بالحقّ، هو أن تعتبر الآخر مثلك ابن الله وأخيك، وحتّى لو أنّ هذا الآخر لم يختبر بعد هذه البنوّة. هذا الذي لم يختبر بعد هوَ أخاك الذي عنده مشكلة. هوَ أخاك الموجوع، أخاك الذي لا زالت حياته محدودة في مكان ما، أخاك الذي لا طموح لديه لكي يصير إبن الله.

وإذا كان متكبر جدأ ويعبتر نفسه الله، تقول له أنتَ بخدمتك، كم هو مهمّ، وتقول له: أخرج من اللاواقعية، من وهم الإستغناء عن الله، كن أعظم من هذا.

لذلك في الخدمة لا تمنين ولا خجل ولا تباهي ولا كبرياء. بخدمتك لا تخجل.

يسوع الذي غسل أرجل تلاميذه قال لهم أمام الجميع: أنا الربّ والمعلّم هكذا تقولون وهذا صحيح، وغسلت أقدامكم، كم بالأحرى عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض." (وردّة فعل بطرس، لن تغسل لي رجلي أبداً، وبطرس وعيَ شيئاً مهماً، إنه إذا كان الربّ يغسّل رجليّ فما عليّ إذا أنا أن أعمل لإخوتي؟).

إذ لم تدخل أنت في عمق أعماق الخدمة ليس لك نصيب مع الربّ. رَبُّكَ خادِمْ. مع أنّه المعلّم، ومع أنّه الرب والإله والخالق. حبّه دفعه لأن يكون في خدمة الإنسان.

سوف انتقل لأمور أخرى انطلاقاً من بعض المشاهد الإنجيلية:

المشهد الأول: مَثَل الإبن الشاطر وكيف أنّ الإبن الأكبر كانت خدمته عبودية، لأنه عَمِلَ صحيح ولكن لم يعمل بالحقّ. تكلمنا عنه.

المشهد الثاني: مريم العذراء، مريم حملت خدمة لأليصابات. كثيراً ما يناقش علماء الكتاب المقدس هذا الموضوع، أنّ الربّ أعطاها لمريم علامة: أليصابات. حبلى في شيخوختها... هي ذاهبة لرؤية الآية ولكن في النهاية، أمرأة صبية ذاهبة إلى امرأة عجوز ستلد فأكيد خدمتها. إنّما هي تعبّر عن هذه الخدمة منذ لحظة وصولها؛ إذ قالت لها أليصابات: "من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ؟... عند سلامك ارتكض الجنين في أحشائي بفرح.".

صحيح من الممكن أن تكون مريم تعبت عند أليصابات، إنما الخدمة الحقيقيّة هيَ أن مريم حملت يسوع إلى أليصابات. هذه هي الخدمة: ونحن أيضاً يجب أن ننتبه، لا يجوز أن تكون خدمتنا مميّزة عن خدمة يسوع. لا مشروع خاص لي للخدمة، خدمتي هي ذاتها خدمة يسوع. لديّ مبادرة بأسلوب وبطريقة الخدمة، باختيار النمط الذي من خلاله سأخدم، إنّما أي نمط سأختاره، على خدمتي أن تكون هي خدمة يسوع المسيح بالذات، أي منطلِقة من إختباري لحبّ يسوع المسيح في حياتي وإلا "فراغ". وأكيد أين سأؤمّن خدمتي؟

إذًا أنا موجود في مكان ممكن أن تؤمّن خدمات كثيرة، أي خدمة أؤمّن؟ إذا خيّروني، يجب أن أميّز في الخدمة لأن يسوع المسيح سألوه عن الخطأة والفريسيين، أجابهم أنتم أصحاء لستم بحاجة، الآخرين اعترفوا انهم بحاجة للحبّ. بين هلالين: هل أفتّش عَن ذاتي، وأين أفتّش؟ اطرح سؤال كبير:

أنا الذي أعيش بالرجاء، أو أدّعي على الأقل ذلك؟ أنا الذي أعيس الإيمان، أو أدّعي على الأقل ذلك؟ أنا الموجود بين مسيحييّن وغير مسيحييّن قانطين، ليس عندهم رجاء، هل يا ترى ليس لدي خدمة أؤدّيها؟ أليست مهمتى أن أزرع الرجاء؟ أليست مهمّتي أن أكون باسم يسوع المسيح أسمّي الحقّ حقّ، والباطل باطل؟ ليس بالضروري بالمظاهرات والاعتصامات وتكسير السيارات، إنما بحضور فعلي يشهد للحقّ.

هل يا ترى، إذا يوماً ما رحل المسيحييّن من لبنان لا سمح الله، ولم يبق مسيحي في لبنان، من الممكن جدّا أن يكون له بنية إجتماعية ممتازة (مستشفيات، مدارس، ممكن...) لكن أتظنون أنه ربح كثيراً. أنا أقول أنه يكون خسر كلّ شي؟ وفي يوم من الأيام سيقول لنا الربّ: كنت أريد خدمة هنا ولم يخدمها أحد.

اليوم في الولايات المتّحدة وفرنسا وإسبانيا وإنكلترا، في هذه البلاد التي فيها نظام إجتماعي متقدّم جداً، عندهم حاجة ماسّة لراهبات الأم تيريزا، لماذا؟ لأنهم أمّنوا مؤسّسات كثيرة للناس، لكن المشكلة بفقدان الروح في المؤسسات.

مثلاً آخر: أنتَ تأتي لمعالجه الأبرص وتضع كمامة وفقازات، جيّد، لكنه لن يشعر بحبّك. بينما الفرق بأن تأتي وتضمّ الأبرص قبل أن تبدأ بأي علاج وتكلّمه وتهتم به فيشعر بحبّك له. المؤوسسة لا تعمل هذا، راهبات الأم تيريزا تعملنها، صحيح ليس عندها كلّ إمكانيات المؤوسسة، إنما عندها طاقة الحبّ.

ولا يوجد رئيس دولة أو زعيم أو حتى بابا جمع رؤساء دول وأشخاصاً بجنازته كما جمعت عند موتها الأم تيريزا...

وكلّهم أتوا لأنهم شعروا أن مع عملته هو هذا الذي يريده البشر. وفي لبنان أيضاً، أليس هذا الذي نريده؟ كلّ اللبنانيين وليس المسيحييّن فقط. لكن مشكلتنا أننا لا نعرف ماذا يريدون ولا يعرفون ماذا يريدون. دورنا أن نزرع الوعي.

مثلاً ولد، توفي والده وعاش بمؤوسسة تهتمّ فيه وفي وقت من الأوقات يتبيّن أن أمّه لم تمت ففتشت عليه ووجدته وضمّته وقبّلته، عندئذٍ يكتشف حاجته للحنان، قبّلها عندما أحسّ بالحنان، هذه القبلة أيقظت فيه الحنان لأنه كان مكبوت. وغيّرت كلّ حياته ومفاهيمه.

مَن يقول للّبناني اليوم أنه محبوب؟ أصحاب الألوان والتلاوين لا يقدرون أن يقولوا له انتَ محبوب، أصحاب الألوان والتلاوين لا بيعرفوا أن يصوموا، هؤلاء جماعة إستهلاك وإهلاك. (ممكن أن يكون منهم من هو ممتاز، لكن هذا موضوع آخر) المهم نحن.

ألذي اريد قوله: نحن – نحن.

المشهد الثالث: سأتكلّم من منطلق عيلة مار شربل.

إنتم كجماعة اخترتم شفيع ومثال، القديس شربل، لن اتكلم عن الشفيع سأتكلّم عن المثال وليس بموضوع مجمل الروحانية لكن بموضوع الخدمة والمحبّة.

أوّلاً الصوم: مار شربل صامَ. لهذه الدرجة صار لله، صار يعتبر أنه حتى حنان أمّه ليس ملكه. صحيح أوجّع أمّه، لكن أكيد نيّته ليست في أن يوجعها إنّما أن يوصلها لأبعد. صارَ همّه شيئاً آخر. لا يريد أن يستهلك أمه أو أبيه ولا عيلته ولا أحد، يريد أن ينقطع بهذا المعنى، يقول لها سنلتقى بالسماء. سأقبلُكِ عطيّة من الله لأنه هوَ سيعطيني إياك في السماء.

ومار شربل لم يُخطئ، فيسوع سبقه، وقال لمريم: "ما لي ولك يا أمرأة، لم تأتِ ساعتي بعد."

مار شربل لم يُخطئ، عمل متل معلّمه، عرف أن يصوم بهذا المعنى لكي يجعل خدمته فعلاً مجانية، وليس لأجل أجر ولا لأجل مقابل، بل لأنه إبن البيت وداخل في مشروع البيت، لا أكثر ولا أقلّ. وهو أيضاً إبن البيّ.

ثانياً صلاته: شربل رجل الصلاة.

لا خدمة صافية حقيقيّة بدون صلاة، أتكلم بالمفهوم المسيحيّ وليس بالإنسانية التي فيها أعطي لاريح ضميرى، وكثيرون يقولون لماذا أشارك في القداس، لماذا أصلّي ما دمت أعمل أعمالاً صالحة.

على مهلك:

صومُك إفخارستيا وفطورك إفخارستيا، والباقي ماذا: وقفة أمام الله الذي تقول له ليس لي شيء في هذه الدنيا لأنّه ليس لي الحقّ أن أقتل حياة وهوَ الذي يقول لكَ أنا أعطيك. ما الصلاة إلاّ هذا الموقف.

حتى إذا تكلّمت عن الترتيب الكلاسيكي للصلاة: صلاة طلب، صلاة شكر، صلاة تسبيح...

صلاة الطلب تعني أنا فقير ليس عندي شيء أعطيني، صلاة الشكر تعني أعطيتني أشكرك، صلاة التسبيح يعني كم أنتَ عظيم بعطاياك، بمواهبك.

كلّ صلاة تقول إثنان: كم أنا فقير، ليس عندي شيء. وتقول كم أنا غنيّ لأنني أُعطِيتُ كلّ شيء.

ولأني فقير لا اقدر أن أتجبّر وأتكبّر عندما أخدم ولأني غنيّ أقدر أن أبذل وأُعطي وأُحب مثل يسوع.

هنا تواضع شربل وقداسة شربل لأنّه كان رجل صلاة.

وهذا الذي نقوله عن شربل يجب أن نقوله عن عيلة مار شربل ونعيشه، لأن شربل كان يعرف إنه كانَ أفقر الفقراء وكان يعرف أن ليس عنده شيء، وأغنى الأغنياء لأنه أخذ كلّ شيء من الله. ما أخذ شيء من أي مكان آخر. لم يسرق كما أنا أسرق حياة الدجاجة أو الملفوفة، شربل لم يسرق حتى حبّة العنب، وطبعاً ليست خطية اذا انا أكلت، لكن أنظروا إلى أين وصل شربل، وإلى أين نحن نريد أن نسعى لنصل. وهذا معنى كلام يسوع في الإنجيل: "لا تعرف شمالك ما فعلت يمينك"، مع أنه يقول لنا: "ليضئ نوركم للناس فيروا أعمالكم الصالحة"، إنّما هذا شيء وذلك شيءٌ آخر.

ولا مرّة شربل عمل حتى يَظهر لكن القنديل الذي لا يضيء أضاءَه شربل، هذه أعجوبة شربل.

وإنتَ لا تسعى ليرى الناس أعمالك إنّما ضوء المسيح الذي يَظهر بأعمالك. من هنا مهم جدّاً أن يعرف الذي تخدمه إنك مثله فقير وإلاّ خدمتك له تجعله يَخجل. وكلما وقف أمامك سيحتار كيف يشكرك، لأنّه لم يعرف أنك فقير، ظنّ أنك غنيّ، أي أنك الله وهو عبد. هنا يخرب كلّ شيء. لا تقيس الفقر والغنى، إلا بكم أنتَ الإنسان الذي  تعبُر من خلاله موهبة الله لخدمة أخاك الإنسان؟ أو كَم أنتَ تنسب لذاتك ما أعطيته للآخر، فتقتله، أو تحوله لوقح لا يعود يخجل من الطلب.

هذا ما يعلّمنا إياه شربل بموضوع الليلة. شربل الذي يتجلّى في الخفاء ويختفي في التجلّي.

وانشالله نكون نحن حقيقة هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون كيف يتجلّون بالخفاء ويختفون بالتجلّي. آمين.

جواباً على سؤال حول التمييز في الخدمة بين إيصال كلمة الله عند الذين هم بحاجة وبين خدمة المريض أو الفقير.

الجواب: الخدمة لا تُحدّ. مار شربل خدم فكان يأتي إليه ناس ليسترشدوا. لكن مار شربل متى تجلّت خدمته. اليوم. من وقت ما انتقل لعند الربّ تجلت خدمته. هناك مطارح معيّنة نرى فيها حاجة للخدمة، هنا خدمة مادية وهنا حاجة لكلمة الله. وإذا كان لا بد من الإختيار أسأل ذاتي السؤال: هل اذهب للذي بحاجة لكلمة الله لأني أنزعج من الفقير، أو لا يتحمل قلبي الإنسان المريض أو لا اتحمل رائحة المهمّش. وثانياً ننتبه من أن ندين الآخرين. أضع ذاتي مكان الله وأقول عن الآخر أن علاقته بالله ليس جيدّة. أنتبه أن لا أدخل في دينونة. لا يحقّ لي بأن أدين الآخرين.

الأب داوود كوكباني – كنيسة مار شربل أدونيس 7 اذار 2007