"لا يَنزِع أحدٌ فرَحَكُم منكُم" (يوحنا 16 / 22)

and-no-one-will-take-away-your-joy

يعيش الإنسان ساعياً دائماً إلى الفرح في حياته. فالفرح هوَ ما يُحفّز الإنسان على الإستمرار في العيش ويجعلهُ يتعلّق بالحياة. ولكنّه يتعرّض بشكلٍ دائم للحُزن والكآبة وللخيبات مِن فرَح لا يُشبِعه ولا يكفيه.

لنميّز اليوم بين الأفراح التي يقدّمها لنا العالم والفرح الذي يعطينا إيّاه ربّنا يسوع المسيح.

فرَح العالم هوَ فرح مزيّف، خدّاع، مغشوش، مزغول ومُفخّخ.

وأنواع هذا الفرح كثيرة:

1.فرح الّلذة أو فرح الشهوات:
هوَ سِرّ سقوط الإنسان وهوَ سلاح الشيطان الأوّل. يُرمَز إليه بسقوط حوّاء عندما رأت الثمرة شهيّة للنظر، بَهِجَة للعيون. فالإنسان يبحث أحياناً كثيرة عن الفرح في المكان الخاطئ. هذا الفرح هوَ فرح آنيّ، لحظيّ، مؤقّت مثل البُخار أو السّراب، يتبخّر مفعوله فورَ إنتهائِه. وهوَ ما يسمّى أيضاً بفرح الأغبياء (مَثَل الغنيّ الجاهل: يا نفسي كُلي واشربي واستريحي وافرحي... أجابه الله: "يا غبيّ").

2.فرح المظاهر:
الإحتفالات، الأعراس الفاخرة المُبالغة، إبراز الذات على مواقع التواصل الإجتماعي.

3.فرح الذات:
فرح الكبرياء، فرح المجد الباطل، تصفيق النّاس ومَديحهم وكسب الإعجاب.

4.الفرح ببليّة الآخرين:
مثلما فرِحَ اليهود عندما سلّم يهوذا يسوع.

وهناك أفراح تسمّى أفراح شِبه روحيّة وهي أفراح خادعة قائمة على الإنفعالات المؤقّتة. في مَثل الزارع يتكلّم يسوع عن الذين "حين يسمعون الكلمة يقبلونها للوقت، ولكن ليس لهُم أصل في ذواتهم، بل هُم إلى حين". هؤلاء هُم الذين يفرحون سريعاً بكلام الربّ ظانّين أنفسهم أنّهم يحقّقونه في حياتهم ويَعيشونه ويكتفون به. (مر 4)

وهناك فرَح التلاميذ الذين رجعوا إلى يسوع فرحين بأنّهم حتّى الشياطين تخضع لهُم ولكنّ الربّ قال لهُم "لا تفرحوا بهذا بل إفرحوا بأنّ أسماءكم كُتبت في الملكوت. (لو 10)

ويقول يهوَذا في رسالته (1 / 18 ) "إنّه في الزمان الأخير سيكون قومٌ مستهزئون، سالكين بحسب شهوات فُجورهم، هؤلاء المعتزلون بأنفُسِهِم، نفسانيّون لا روحَ لهُم."

ويقصِد بهم النّاس الذين فرحهم بالإستهزاء وبإرضاء الرغبات التي تعطيهم الإكتفاء النفسي فيظنّون أنّهم فرحون.

هذه أفراح العالم، كلّها التي لا تُشبِع إنسانًا، بل يبقى يبحث عن الفرح الحقيقيّ الذي ينقصه دائماً.
عن أي فرح يكلّمنا يسوع؟ ما هذا الفرح الذي لا ينزعه أحدٌ منّا؟ للإنسان ثلاثة أبعاد للفرح: هناك الفرح الجسدي الذي يسمّى الّلذة، وهناك الفرح النفسيّ الذي يسمّى السعادة، وهناك فرح واحد حقيقي هوَ الفرح الروحي وهوَ ما يعطينا إيّاه ربّنا يسوع.

يوم الجمعة العظيمة كان وضع التلاميذ والمريمات يُرثى له: حزنٌ عميق جدّاً، كآبة عظيمة، يأسٌ كامل. ولكن فجر الأحد تغيّر كلّ شيء: فرَح تام عميق ثابت.

قال يسوع قبل صلبه: "الحقّ الحقّ أقول لكم، إنّكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. إنّكم ستحزنون ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح... عندكم الآن حزن ولكن سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبَكُم ولا ينزِع أحدٌ فرحَكُم منكُم".

وهذا ما حصل بالفِعل.

لقد تراءى الربّ لبُطرس وللمريمات والتلاميذ ومِن ثمّ لتوما وبعد رؤيتهم ليسوع القائم، لم يَعُد أيّ شيء يستطيع إنتزاع فَرحَهم. لقد بذلوا حياتهم كلّها حاملين هذا الفرح حتّى الشهادة. وعندَ مشاهدة بولس للمسيح فرحَ فرحاً شديداً رافقه حتّى قطْع رأسه، وكان يقول مِن سجنه لأهل فيليبي (4 /4): "إفرحوا في الربّ في كلّ حين وأقول أيضاً إفرحوا". وفي رسالة تسالونيكي 1 (5 /16): "إفرحوا كلّ حين." لقد كان بولس الرسول والتلاميذ فرحين دائماً رغم الشدائد والإضطهادات والفقر والجوع والمعاناة.

فالفرَح المسيحيّ ليس شعوراً بشريّاً بلْ هو شعور روحيّ. ففَرح المسيحي ليس من هذا العالم وهوَ ليس مرتبطاً بأي شيء. الفرح حالة روحيّة داخليّة لا علاقة لها بالظروف فالفرح المسيحي مثل الحُبّ المسيحيّ، غير مشروط، والمسيحيّ كنزه في داخله وليس خارجه. فالخارج لا يعطي فرحاً والذي يُعطي الفرح الحقيقي هوَ المشاهدة ورؤية المسيح.

فكيف أفرَح إذاً في هذا العالم وكيف أشاهد المسيح وأين؟

1.كلمة الله في الإنجيل:
كلام الله يُلهب القلب ويَرفع الإنسان عن صغائر الحياة. (تلميذَيّ عمّاوس)

2.الإيمان:
مثل توما وفرَح مشاهدته للمسيح: "لا تكن غير مؤمن بلْ كُنْ مؤمناً".

3.التوبة:
لأنّ الخطيئة تولّد الحزن، فالتوبة والعودة إلى الله تولّد فرحاً لا يُوصَف وتجعل الإنسان حُرّاً  قويّاً.  ومِن أبرز ما يولّد الحزن في أيّامنا هذه: التذمّر، الإدانة، الغضب والرياء.

4.الشركة الروحيّة:
الحياة ضمن جماعة ومَحبّة الإخوة التي تُعطي فرحاً عظيماً عميقاً.

5.رجاء الحياة الأبديّة:
النظر الدائم إلى السماء وعدم وضع رجائنا في هذه الأرض وهذا العالم.

"سيكون لكُم في العالم ضِيق"

6.الشُكر الدائم:
مِن الأسباب الرئيسيّة للفرح شُكر الله على كلّ شيء.

7.الصلاة الدائمة:
تَضَعُنا بصِلَة دائمة مع الله نبع الفرح.

والفرح الحقيقي العظيم هوَ فرح الحبّ. حبّ الله للإنسان وحبّ الإنسان لأخيه. ففي قلب المَصاعب ووسط التجارب تكفينا نعمة الله التي تُعطينا عربون فرح الحياة الأبديّة "تكفيك نعمتي". ويقول بولس في رسالة كولوسي (1 /12) :" شاكرين الآب الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور". وهل هناك أعظم من هذا الفرح الذي تُعطيه شركة القديسين في نور الله الأزلي الأبدي؟

فخمرُ فرحنا هوَ دمّ المسيح الذي أعطانا نعمة البنوّة وخلّصنا مِن الخطيئة وحرّرنا وأعطانا فرحه الذي لا ينزعه أحد منّا.

فلنفرح إذاً في كلّ حين ولنشكر في كلّ شيء ونصلّي بلا إنقطاع كما يُوصينا بولس الرسول، ولنحيا بفرح الحبّ النابع مِن قلب الربّ.

مِن سِفر حبقوق (3 /17):" لو أثمَر التين أو لَم يُثمر ولا أخرَجَت الكروم عنباً، لو حَمَل الزيتون أو لم يَحمل ولا أعطَت الحقول طعاماً، لو مات الغنم أو لم يَمُت في الحظيرة وخَلَت المزاود من البقر لبقيتُ أغتبط بالربّ وأبتهج بالله مخلّصي".

صلاة:
يا ربّ لقد كشفتَ لنا أبعاد الإنسان، ذلك المخلوق الذي جبلته على صورتك ومثالكَ. نطلب إليكَ أن تُرسِل علينا روحكَ القدّوس الذي رفَّ على وجه المياه في بداية الخليقة فجعلَها خصيبة، والذي باركَ سارة وجعلها تحمل وتلِد إسحق بعد أن كانت عاقراً، والذي حلّ على العذراء مريم وجعلها والدة المسيح. هذا الروح بعينِه فليَحِلَّ علينا اليوم أفراداً وأزواجاً، ويَخلُق في قلوبنا هذا الإنسان الجديد، هذا المخلوق الذي ينتظر أن يُولد فينا، ولْنُرَدّد مع العذراء مريم: "ها أنا أمةُ الربّ، فليكُن لي بحسب قولك...".
الأب هنري بولاد اليسوعي

مع ريمون ناضر – كانون الأول 2017