"استقلاليّة يسوع" الأب يونان عبيد

Jesus

 الأربعاء 20 تشرين الثاني 2002

باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد، آمين.

نتوقف على أسئلة:

هل كان يسوع مستقلاّ؟ متى وكيف وأين ومع من؟

أوّلاَ: 
أوّل إشارة إستقلال أظهرها يسوع في حياته كانت في عمر 12 سنة. أوّل كلام ليسوع في إنجيل لوقا، هذا النطق الأوّل كان إشارة واضحة إلى الإستقلاليّة. عندما أضاعه والداه وقالت له والدته أنّها وأباه أمضيا ثلاثة أيّام يبحثان عنه فأجابها: "ألا تعلمان أنّه يجب عليّ أن أكون عند أبي".

إذاً أوّل عنصر في استقلاليّة يسوع كان بالنسبة لأهله. بالنسبة لأهله كان يسوع مستقلاً مئة بالمئة لأنّه أعطى الأولويّة لأبيه السماوي. ورداً على هذا الكلام يقول الإنجيلي لوقا: "أمّا يوسف ومريم فلم يفهما، لم يفهما ما قاله لهما" ما معنى لم يفهما؟ الفهم هنا يعني أمرين. أوّلاً: هما فهما أنّهما وجداه بعدما أضاعاه على الصعيد الجسدي، شاهداه في الهيكل، ولم يفهما على الصعيد اللاهوتي وعلى الصعيد الذهني. فهموا الكلمات ولكن لم يفهموا المعنى. والدليل على ذلك أنّهم عادوا. ولكن الإشارة إلى عدم الفهم هي أن يسوع أظهر استقلاليّته عنهم إنطلاقاً من مسيحانيّته وكيانه، وارتبط مباشرة بأبيه السماوي مع كلّ الشكر والحمد والعواطف ليوسف ومريم ولكنّه كان مستقلاً عنهما.

الإشارة الثالثة لاستقلاله عن أهله هي عندما كان مرّةً يعظ وأتى أحدهم وقال له إنّ أمّك وأخوتك ينتظرون رؤيتك فقال: "من هي أمّي ومن هم إخوتي؟ أمّي وأخوتي هم الذين يعملون إرادة أبي الذي أرسلني". وبهذا أعطى يسوع الأمومة والأخوّة وكل الروابط الدمويّة معنىً متسامياً جداً. لا علاقة لي بالقرابة الدموّية مع أبي وأمّي، قربي وقرابتي هي مع ربّي. إذاَ الإشارة الأولى: –  كان يسوع مستقلاً - كونه ابن الله-  عن الروابط الدمويّة التي تربطه بأهله وبدأ عنده هذا الاستقلال بعمر 12 سنة، أوّل كلام قاله هو: إستقلال. هذا واقع، ونشاهده فقط عند لوقا وليس عند باقي الإنجيلين، لأنّه قيل أن العذراء أخبرت لوقا بهذا ولكن هذا الكلام ليس بالمنزل أو بالعقيدة الكلاميّة. ولكنّه الإشارة الأولى إلى استقلاليّة يسوع. 

الإشارة الثانية والأهم إلى استقلالية يسوع هي بالنسبة للشريعة القديمة. هناك إشارتان مهمّتان وخطيرتان بالنسبة للشريعة قالهما يسوع في إنجيل متى الفصل 6 يقول: "سمعتم أنّه قيل"، والصيغة الثانية هي: "قيل لكم". ما معنى هذا الكلام؟ سمعتم أنّه قيل يعني أنّكم سمعتم قراءة الشريعة، تقرأ في الهيكل قراءة إحتفالية وليتورجيّة علنية سمعتموها في المجامع وتبدأ خاصة هذه القراءة العلنيّة بصلاة. "سمعتم أنه قيل". ويعود ويقول لهم: "قيل لكم" ماذا تعني "قيل لكم" قيل لكم في الشريعة القديمة: "أمّا أنا" "سمعتم أنّه قيل..." "أنا" هذه كلمة  أل "أنا". هنا الاستقلاليّة. "أمّا أنا" أمّا أنا تعني أن كلام يسوع المستقل عن كلّ الدنيا أهم من كلام الشريعة وهذا دليل على دعوته المسيحانيّة لأن الآب مسحه وأرسله وأعطاه السلطان والاستقلالية للتعليم والتبشير.

إذاً بالنسبة للشريعة القديمة على الرغم من أن الله هو تاج الشريعة القديمة على الرغم من كلّ ذلك، يسوع "الأنا" غلب كل شيء. فهو يقول لهم على الرغم من أنّكم سمعتم في الشريعة وقالوا لكم هكذا... مع كل الاحترام، ولكن القرار لي "أنا" أنا المستقل... أنا من يتكلّم... ومن هنا دلالة كبيرة على حريّة شخصيّته وعلى استقلاليته وعلى منهجيته المستقل بها ولا يتبع أي رضوخ أو مرجعيّة لأحد. تخطّى الشريعة القديمة بالشرعة الجديدة. في العهد القديم هناك شريعة في العهد الجديد هناك شرعة. شريعة موسى وشرعة يسوع.

سوف نستعين ببعض الأمثلة الحياتّية المهمّة جداً ولكن بإيجاز: 

عندما يقول يسوع :"قيل لكم العين بالعين" انظروا ما معنى العين بالعين وما وراء هذه العبارة. نحن ما زلنا هنا في إطار العهد القديم. كانت قديماً شريعة الإنتقام 70 مرّةً، أي فناء العائلة فناء القبيلة وفناء الكلّ انتقاماً. وعمدوا بعدها إلى تخفيف الإنتقام فأصبحت "العين بالعين والسن بالسن". قيل لكم العين بالعين. إذاً يسوع في الشريعة الجديدة يقول "لا تقاوموا". هذا لا يعني لا تقاوموا الشرّ إنّما لا تردّوا على الضرب بالضرب، لا تردّوا على الإنتقام بالإنتقام. في شرعة يسوع المستقلّة يجب التخلّي عن كلّ حق بالإنتقام وذلك من أجل ملكوت الغفران والمحبّة بدل الإنتقام. الشريعة القديمة كانت انتقاماً وثأراً، بينما شريعة يسوع هي غفران ومسامحة. وإذا طلب في العهد القديم سبعين مرّة للإنتقام، فيسوع نادى بالغفران سبعين مرّة سبع مرّات. ومن ثمّ: "من ضربك على خدّك الأيمن حوّل الخد الآخر". ليس المقصود من قبل يسوع موقف خنوع واستسلام، حوّل له الأيسر، هذا لا يعني أنّك خاضع للآخر في عمليّة تخلّي عن الكرامة إنّما العكس، المقصود تصرّف واعٍ لا يردّ على الشر بالشر، بل يحتمل الإهانة بالإنتصار على الذات أوّلاً وإظهار الحق والمطالبة به ثانياً. كما فعل يسوع عندما صفعه الجندي على خدّه فقال له: "إن لم يكن كلامي خطأ فلماذا تلطمني؟". إذاً العمليّة هي في الإستقلاليّة، في أخلاق وآداب يسوع L’indépendance dans la morale de Jésus، هي عدم التخلّي عن الكرامة بل إظهار الحق. والحق يجب أن يظهر بالمسامحة والغفران.

أمر ثالث يختص بأخلاقيتنا هو: "أحبب قريبك وأبغض عدوّك". قديماً كان القريب كلّ إسرائيل، والآخرون يُرذَلون. إذاً الإسرائيلي هو القريب. كانت أعمال المحبّة تحصر بالصالحين والأبرار والذين يحبّونهم. أمّا مع المسيح، وهنا الاستقلالية بالتعليم، تمتد المحبّة إلى الأعداء والمضطَهِدين، إلى الأشرار والكفار، إلى العشارين والخطأة. عادة أن يكون المرء مستقلاً بتعليمه هذا يعني أنه لا يجب أن يكون تابعاً لأحد أو تعليمه مقتبساً عن أحد ولا يقلّد أحداً، وهنا أريد أن أوضح الفرق بين الإقتداء والتقليد، وأرجو أن تفهموني بشكل صحيح، القداسة هي شعار كلّ إنسان مسيحي، وكل إنسان مسيحي هو مدعو إلى القداسة. لكن هذه لا يجب أن تكون عمليّة قهر وممارسات مضنية، نحن في العام 2002 أحياناً تُفرض علينا صلوات مطبوعة وروحانيّات تخص هذا القديس وتلك القديسة... وأكبر خطر نعاني منه نحن المسيحين حتى اليوم، هو عقدة الذنب. لم أستطع مواكبة القدسة تريزيا... لم أتمكن من الذهاب إلى مار شربل الأسبوع الفائت... فيعيش المرء باضطراب. ما أريد قوله لكم أنّه بمنهجيّة وتخطيط واستقلالية يسوع لا وجود لكلّ هذا. عنوان يسوع الكبير بصلاته هو الحرّية. كان حراً بصلاته. كان حراً بممارساته، حراً بمناجاة أبيه، يقول له الكلمات التي يريدها. كلّ الإستعمار Imposition  حتى في الصلاة يجب أن يكون مرفوضاً. إذاً ومن فضلكم عليكم نزع فكرة الذنب من رؤوسكم، وأرجو ألاّ تكون موجودة، ولكن هذا شيء نعاني منه نحن الشرقييّن، دائماً مضطربين غير مقتنعين بصلاتنا، وهناك أحياناً مَن يقوم بنشر تفاهات وأوراق الصلاة خوفاً من الذي كُتِبَ فيها بواجب ارسالها كذا مرّة، ونربط هذا الخوف بأحداث حياتنا.

إستقلالية وحرية يسوع يجعلون منّي قدّيساً حرّاً وملتزماً حرّاً. أحببت قول هذا لأنه يدخل في نطاق يسوع. لا تفعلوا كلّ ما هو مفروض عن غير اقتناع،وإذا كنتم مقتنعين به فهنيئاً لكل إنسان اقتنع والتزم. يوجد صيغتان: أو أنّي أسير عالماً بما آمنت أي القليل من العبادات والتساعيات والصلوات، أو أنّي أسير عالِماً بمن آمنت أي بيسوع المسيح. عليّ أن أختار بين مجموعة عبادات أو عبادة واحدة ليسوع المسيح. إذا كانت هذه المجموعة توصلني إلى الأصل والينبوع فهنيئاً لي، أما إذا كان الينبوع في جهّة وهذه العبادات في جهّة أخرى، فهذا يعني أنّه هنالك شرخ في حياتنا المسيحيّة ومن هنا عقدة الذنب.

فلأحاول إذاً ألاّ تكون القداسة ضاغطة عليّ أو أن تكون سبب لعقدة ذنب. أكون عندها لم أستفد من سرّ التجسّد والفداء والقيامة وأكون قد خسرته. إنطلاقا من هذا الأمر يريدني يسوع من خلال المحبّة إنساناً حراً، شريعة يسوع المستقل تقول "أحبوا كما أنا أحببت" أنا الحرّ أنا المستقل هكذا أريدكم أن تحبّوا وانسوا التقليد. لأن المسيح لم يطلب أن تقلّدوه بل أن تتبعوه قال اتبعوني. اتبعوني واطيعوني. هذا ما أراده المسيح. وقلت لكم مرّة ان القديسة تيريزيا لم تصبح قدّيسة لأنها تبعت الذخائر. وهي كانت أكثر واحدة متحررة ما بين القديسين والقدّيسات، لا تهتم للعقيدة وللأمور الضخمة والفلسفات، بل فقط للأمور البسيطة، فأعطت الأمور الصغيرة معنىً كبيراً إنطلاقاً من حريتها الروحيّة التي عاشتها واستمدّتها من المسيح. إذاً في ما يختص بالمحبّة، العملية كلّها متوقّفة على، أحبوا كما أنا أحببتكم وهنا البطولة لأن يسوع في برنامج محبّته كان مستقلاّ. لا أحد أحبّ مثل يسوع. والمطلوب منّا أن نسير أيضاً في هذه المحبّة حتّى نتمكّن من الإستفادة من استقلاليّة يسوع وتوظيفها في أعمال محبّة خيّرة وبنّاءة انطلاقاً من التزامنا المسيحي. فأنا انطلاقاً من التزامي المسيحي هناك أمر وحيد عليّ إظهاره للناس لأن الحياة المسيحية ليست مجموعة أمور. المحبّة المسيحية هي عندما أترك مجالاً لنور المسيح أن يشعّ من خلالي. بقدر ما نور الله يشع فيّ، بقدر ما أكون إنساناً مسيحياً. بتعبير أوضح، عندما لا يحيد نظري عن نظر المسيح تلك هي القداسة. وإذا بعُدَت مسافة فعليّ إعادة التركيز وإذا بقيت محافظاً وموجّهاً نظري دائماً إلى نظر المسيح، أكون عندها أستفيد من الإستقلاليّة.

لا تزنِ: قيل لكم لا تزنِ. الأمر مختلف عند المسيح، فشريعة يسوع شجبت الزنى حتّى في قلب الإنسان. هذه هي استقلالية وفرادة يسوع. لم ينظر إلى الزنى كعملّية خارجّية إنمّا نظر إلى الداخل، وكان متصلّبا ومتطلّباً أكثر. وشجب الزنى حتّى في قلب الإنسان لأنّ زنى القلب أخطر من الزنى الجسدي الفعلي. ما هو جديد في استقلالية وفرادة يسوع في هذه العمليّة؟. إنّه ساوى الشهوة بالفعل وهذا لم يكن موجوداً قبلاً. إذا لقد كان يسوع مستقلا في أخلاقيّته الجنسيّة. وعندما أقول استقلالية أقولها بكل ما للكلمة من معنى. لم يقتبس يسوع عن أحداّ بل تخطّى الأقدمين وتخطّى الأخلاقيّة التقليديّة اليهوديّة وزاد عليها وأعطاها غزارة من الداخل. والجديد أنّه لا تكفي الخيانة من الخارج فعمليّة الزنى هي من داخل وليس من خارج. يسوع ساوى الشهوة بالفعل "من اشتهى امرأةً فبها زنى" ولكنّه بالمقابل حرّم (وهنا الاستقلالية أيضاّ) حرّم رجم الزانية ودعاها إلى التوبة. فلو كان حقاً تابعاً للشريعة القديمة لكان وافق على رجمها حتّى الموت، ولكنّه أعطى أخلاقيّة تحمي المرأة انطلاقاً من أخلاقيّته المستقلّة، وأقول مستقلّة لأن هذا شيء جديد يخصّه وحده ومنبثق منه وحده.

وموضوع الطلاق أيضاً يسوع يحرّمه كلّياً، إلاّ أنّه يستثني حالة الفحشاء بحسب إنجيل متّى. وهناك ثلاث شروحات لهذه الحالة، فقد يكون عيب دون تحديد نوعه، أو خيانة زوجيّة، أو زواج غير شرعي أي مساكنة. إذاً يسوع حرّم كلّ أنواع الطلاق وهذا هو جديده.

وأتكلّم أخيراً عن "لا تقتل" وأتابع الحديث: في الشرعية القديمة كان القاتل يعاقب بالقتل. أمّا مع المسيح فشريعته الجديدة تجعل الغضب، أي غضب الإنسان على أخيه فمن قال لأخيه يا جاهل، تجعله قاتلاً. فكلام اللسان البذيء هو أخطر قتلاً من القتل الجسدي. فالمسيح انطلق إلى أعماق الإنسان ليحرّره وينّوره ويعطيه قيمة، مثلما أعطاه الله قيمة في العهد القديم. فديانتنا كلّها بعهديْها القديم والجديد إنّما هي من أجل شخص واحد هو الإنسان هو أنا، لتبقى كرامتي وقيمتي. بالمجد والكرامة كللّته. من هو هذا الإنسان الذي أعطيته كلّ هذا؟

علينا النظر إلى ما وراء الشرح. فكلّ ما تمّ فعله في العهد القديم والجديد، كان في البداية من أجل شعب صغير وفي العهد الجديد ومع المسيح أصبح من أجل إنسانٍ صغير لكي يكبر فيصبح كبيراً في عينيّ الآخر كما هو كبير في عينيّ الله. وهذا مرتبط باستقلالية يسوع وبأهميّة الإنسان في حياة يسوع.

كل انجيل يسوع المسيح يُختصر بكلمة واحدة وهي: "من أجل" الإنسان. إذاً الذي يغضب على أخيه يستوجب المحاكمة أي أن الله يحاكمه ويعاقبه، وهذا لا يعني أن الله لا يميّز بين القتل والغضب، لكنّه يدين الإنسان بحسب نوايا قلبه.

لقد شاهدنا الإشارة الأولى والثانية بالنسبة لأهله وبالنسبة للشريعة. 

ثالثاً: بالنسبة للهيكل. يسوع يتخطّى الهيكل الحجري والهيكل المصنوع بالأيدي. دائماً يهمّه الإنسان، فهو يريد الاّ يبقى الإنسان بتفكيره البشري على الأرض، إنّما يريد أن يرفعه إلى فوق. هذه أهميّة وجديد يسوع. كلّ الأديان والمنهجيّات السابقة وكل النظريّات التي رافقت حياة يسوع أو كانت موجودة في أيّامه، لم تعطِ البعد الماورائي للإنسان. فبالنسبة ليسوع كلّ ما فعله، هو أنّه نزل لأصعد أنا. هنا استقلاليّته بالتعليم. يسوع يهمّه أن نصل إلى هيكله الوحيد المملوء مجداً وقيامة. وحقيقة هذه الآية: "انقضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام"، تنقلنا من الهيكل الذي استغرق بناؤه 46 سنة إلى الهيكل الذي يجب أن نعبد ونسجد له بالروح والحقّ الذي هو يسوع المسيح. فانظروا إلى الفرق. من بناء حجري مصنوع بأيدٍ بشريّة إلى الإنحناء أمام إنسان يجب أن نسجد له بالروح والحق. إذاً انتقلنا من هيكل الشريعة والعبادات الفرضيّة، إلى السجود بالعبادة بالروح والحق ليسوع المسيح (أوّل بذور للسجود أمام يسوع المسيح في القربان، كانت للمجوس، بدأت معهم أوّل براعم وأوّل بذور وظهور للسجود القرباني، "أين هو ملك اليهود لنسجد له" وهم ليسوا من اليهود إنّما من الوثنيّن). إنّه انتقال من عالم الحجر إلى عالم الروح الذي تفرّد به يسوع. الأستقلايّة بالنسبة للهيكل برزت بأن هذا الهيكل هو جسد يسوع المسيح – من يستطيع أن ينطق بهذا الكلام- المكوّن من الروح القدس في حشا مريم وممجّد من الآب وممتد إلى المسكونة كلّها. أخيراً إنّ الهيكل الذي يرى فيه اليهود شرفهم وعظمتهم وكرامتهم يتعارض مع طبيعة الهيكل الذي يريده، وهو يسوع المسيح.

رابعاً: استقلاليّة بالنسبة للغير والآخرين (وعليكم الإنتباه هنا لأنّ الإستقلاليّة مبطّنة). هناك عبارة جميلة تقول: "لم يسمح يسوع لأحد باعتقاله قبل أن تأتي ساعته". ممّا يعني أنّ لديه استقلاليّة وحريّة وسلطان، الثلاثة معاً يتماشون مع يسوع المسيح. أي عندما أريد أنا، أسلمكم ذاتي. في إنجيل يوحنّا يقول يسوع أجمل عبارة في الإستقلاليّة: "ما من أحد ينتزع نفسي منّي أنا أبذلها برضاي" وكلمة أنا رهيبة في إنجيل يوحنّا، ففي كلّ مشاجرة مع الفريسين يقول يسوع أنا نور العالم... أنا القيامة... أنا خبز الحياة... ال "أنا" تملأ إنجيل يوحنّا تأكيداً على استقلاليّة يسوع لا أكثر ولا أقلّ، تأكيداً على سلطانه وحرّيته وقوّته وثقته بنفسه. يقول "ما من أحد ينتزع نفسي منّي أنا أبذلها برضاي" فلي القدرة على بذلها ولي القدرة على استرجاعها، أي عندما أشاء أموت وعندما أشاء أقوم. يسوع مستقلّ ووضعه مرتاح. التنسيق بينه وبين الآب رائع لأنّه "هو والآب واحد" هذا يفسّر الكلام في إنجيل يوحنّا، فهذه الجملة تعني أنني ساعة أريد يا كتبة ويهود وفرّيسيّن أموت، ساعة أريد أبذل حياتي وأموت وتدفنوني وتفعلون ما تريدونه، ولكن ساعة أريد أسترجع حياتي أيضاً. وبالإضافة، عندما أرتفع وأسترجع نفسي أرفع معي أناس أيضاً. هذه هي ديانتنا وهذه مسيحيّتنا وهنا تكمن روعة يسوع المسيح. نحن نمرّ على هذه الكلمات مجرّد مرور إلاّ أنّها مليئة بالأمل والحريّة والكرامة والشرف. فمعنى هذا الكلام أنّه لا يقف عند حدّ الموت بل يتخطّاه إلى القيامة. كما أن طاعة المسيح للآب في بذل ذاته هي تحت علامة الحريّة والسلطان الذاتي أي الأستقلاليّة. بتعبير آخر، أن يقدّم المسيح ذاته هذا فعل حرّ مستقلّ، هو يقرر ساعته لا أحد سواه. في ذبيحته ميزتان: موت ارتضاه وحبّ تقوّى به. ليس موته خنوع، أي أنّهم كتبوا له أن يموت أو حكم عليه ليموت، بل هذا الموت مفعم بالمحبّة. انتبهوا إذاً، فهو لم يُكتب له ليمت ولو لم يمت ما كنّا ندري ماذا كان ليحدث... صحيح أنّه ارتضى بالموت ولكنّ هذا الموت ليس يتيماً وإلاّ لا أجر ليسوع المسيح، فهو مات لأنّه يحبّ. حرّيته تجاه الذين ينتزعون منه حياته ترتبط بالرسالة والسلطان الذين أعطاه الله إيّاهما.

خامساً: بالنسبة للبيئة الإجتماعيّة. وهنا أيضاً اسمعوا وعوا. يسوع كان إنساناً حراً ومستقلاً، سيّد لنفسه وسيّد قراراته. تعاطى مع جميع فئات الشعب بحرّية وعفويّة مطلقة. تعاطى مع الأغنياء وتفاهم مع الفقراء وتضامن مع المهمّشين وسامح الخطأة. وكان تعاطيه منفتحاً. كما أنّ يسوع بأعماله وشفاءاته شفى كلّ الناس، شفى من آل إسرائيل ومن الغرباء والوثنيّن والسامريّن والقائد الروماني والمرأة الكنعانيّة، شفى الكلّ ممّا يدلّ على عدم خوفه من أحد. هذا هو الإنسان صاحب الرأي المستقلّ، لست خائفاً من أحد، أريد قول كلّ شيء، وأعمل كلّ شيء لأنّ قناعته مبنيّة على الحب، على حبّه لأبيه وعلى حبّه للإنسان. ونجد هذا الشيء الأكثر عمليّ في حياتنا إذ أنّ يسوع كان يملك قاعدة فريدة نفسيّة تربويّة. كان يدخل إلى قلوب الناس كلّ فئات الناس من باب حالتهم. استطاع يسوع من خلال محبّته وعمق تفكيره واستقلاليّة رأيه أن يدخل قلب الغني والفقير المهمّش والمسكين الروماني والوثني من خلال حالتهم. دخل إلى قلب الخاطىء من باب خطيئته  والأعرج من باب عرجه والمريض من باب مرضه والوثني من باب وثنيّته. ولكن ما الهدف؟ هنا تكمن مسؤوليّتنا والتزامنا المسيحي، أن ندخل قلوب الناس من بابهم ونخرجهم من بابنا. هذه الطريقة التي استعملها يسوع. فالمحبّة المسيحيّة هي أن أترك مجالاً للمسيح لكيّ يأتي إليّ. هذا كلّ المطلوب، أن أترك له مجالاً للمجيء إليّ، لأن الحواجز أصبحت كثيرة وهي كلّها موانع. وإذا بي أزيل كلّ هذه الحواجز والموانع وأترك مجالاً للمسيح بالمجيء إليّ أكون عندها أحيا فعلاً ديانتي المسيحيّة. إذاً الإشارة الخامسة باستقلاليّة يسوع هي البئية الإجتماعيّة.

 

سادساً: بالنسبة للسلطة. في هذا المجال يوجّه يسوع كلامَيْن لمسؤولَين إثنين هذا عدا الويلات الكثيرة التي وجّهها للكتبة والفرّيسيّن. هذان الكلامان مهمّان جداً ويعرفهما الجميع. الكلام الأوّل لبيلاطس: "ما كان لك عليّ من سلطان لو لم يعطَ لك من فوق أو من علو" ما معنى هذا الكلام؟ مار بولس هو من شرح لنا هذا الكلام إذ يعتبر أن كل من لديه سلطان سلطانه هو من الله. وبيلاطس من الأساس لم يفهم ما معنى من علو، ولا معنى السلطة العليا لأنّه سكران بسلطانه وكبريائه. بينما يسوع خضع له لأنّه يعرف مصدر سلطته واحتراماً للذي أعطاه هذا السلطان وإكراماً لله. أمّا الكلام الجارح في هذا الإطار هو عندما قالوا ليسوع أن هيرودس يطلب قتلك فقال لهم إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب..." أريد أن أشرح لكم ما معنى كلمة ثعلب. لكلمة ثعلب معنيان، الأوّل ويعني محتال والثاني ويعني الذي لا قيمة له. يقصد يسوع بكلامه الموجّه لهيرودس: "إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب إنّي أطرد الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغداً..." أن يظهره بلا قيمة وأن يبيّن عدم خوفه من دهائه ومن كلّ كيانه، فهو متابع بطرد الشياطين والشفاءات اليوم وغداً، أي أنّه يكمل عمليّته في أيّة ساعة يشاء. كما طلب منهم أن يقولوا لهيرودس أنه "في اليوم الثالث ينتهي أمره" فأمامه القيامة ومدّته محدودة على هذه الأرض وطالما هو على هذه الأرض فهو يملك الحرّية والإستقلاليّة التي لا يمكن لأحد أن ينتزعها منه. إذاً تفسير الآية بمجملها: لن يخاف يسوع من هيرودس الذي لا يستطيع (على الرغم من مكانته) أنّ يؤثّر على رسالة يسوع الإلهيّة لأنّها حرّة سيّدة ومستقلّة. فالملتزم والمقتنع برسالته عليه متابعتها، وهنا يكمن أجره وبطولته، أنا أريد المتابعة، ولن أخضع للتخويفات أّين كان مصدرها. هذا يفسّر معنى: "قولوا لهذا الثعلب" أي أنّ كلّ إنسان على الرغم من أنّه يملك السلطان والحكم لن يثنيني عن متابعة رسالتي لأنّي لست أجيراً أو عبداً بل سيّداً وحراً.

سابعاً وأخيراً: الإستقلاليّة بالنسبة لأبيه. أعلن يسوع بمناسبات عديدة حرّيته الكاملة والمطلقة. كإبنٍ عاش في إرادة الآب. فجعل من هذه الإرادة والمشيئة تعامل يومي، حتّى كان مستقلاً بخضوعه لأبيه. "طعامي أن أعمل مشيئة من أرسلني" أي غذائي ووجبتي التي تخصّني وحريّتي واستقلالي، أقبل بأن تكون خاضعة لأبي، لأنني حين أنذر هذا التسليم أكون عندها حرّاً في قراري، ولا يوجد هنا من تناقض إنّما يسوع المسيح بقراره الحرّ واستقلاليّته خضع لأبيه. "طعامي أن أعمل مشيئة من أرسلني". فجعل من هذه المشيئة تعامل يومي، "ما أتيت لأعمل إرادتي إنّما إرادة من أرسلني..."، "وصلّى عشيّة آلامه وموته إلى الآب لا تكن مشيئتي...".

إذاً الفكرة الأخيرة: حريّة يسوع هي حرّية الله عينه، فهو إبن الله المساوي للآب وللروح القدس في الجوهر.

أكبر كنز لنا إذ أن مسيحنا مستقل. من الجميل أن يعيش المرء استقلاليّته. بالمقابل الإستقلاليّة بحسب يسوع تتضمّن خضوع لسيّدنا وخالقنا الأوّل، وكأنّ بيسوع يقول لي بأنه لا يوجد مستقلّ مئة بالمئة، هنالك نوافذ وأبواب للحرّية والإستقلاليّة، ولكن بالمقابل باب واسع للخضوع يتطلّب حرّية خاضعة لمشيئة الله.

وشكراً. أمين.