"من الشقاء إلى الشفاء"

Healing-Paralyzed

رياضة فصليّة  في عنايا 30 آذار 2019
شفاء المخلّع (مر2/ 1- 12)
مع الأب يونان عبيد

"من الشقاء إلى الشفاء"

نسبّح لاسم الربّ يسوع مع جميع الذين التقاهم على الأرض، فاستناروا بكلامه وتحوّلت قلوبهم بنعمته.

في هذا اليوم نكتشف تجلّي سلطان يسوع الإلهي على غفران الخطايا في شفاء مخلّع كفرناحوم. في الآحاد السابقة، رأينا يسوع يشفي الأبرص والنازفة، وفي الأحد القادم، سيشفي الأعمى، وذلك بفعل إيمانهم الشخصي وبعلاقة شخصيّة فرديّة. فهُم وحدهم وبمبادرة ذاتيّة، أتوا إلى يسوع ونالوا الشفاء وعادوا إلى الحياة الطبيعيّة. أمّا في هذا الأحد، فنرى يسوع يشفي المخلّع ليس إستجابة لإيمانه، بل لإيمان الأشخاص الأربعة الذين حملوه وتحدّوا الصعوبات. لكنّ يسوع، فاحص القلوب، رأى إيمانهم، وقال للمخلّع: "مغفورة لك خطاياك، قمْ احمل سريرك وامشِ".

عمليّة الشفاء:
هوذا مخلّع مقعد لا يقدر بمفرده أن يصل إلى يسوع، فحمله أربعة رجال وصعدوا به ملقىً على سريره إلى سطح البيت. فكشفوا السقف ودلّوا المخلّع إلى حيث يسوع جالس وسط الشعب المزدحم. فكافأ يسوع صنيعهم المؤسّس على الإيمان، بأكثر ممّا تصوّروا، رافعاً الشفاء إلى ذروته القصوى عبر شفاء النّفس الخاطئة ومعها الجسد المريض. فبادر المخلّع بالقول: "يا بنيّ مغفورةٌ لك خطاياك". كلمة غير مسموعة من ذي قبل، عدّها أولياء الناموس تجديفاً على الله وسلطانه. وأمام ما يُضمر هؤلاء من اعتراض، أكّد يسوع على سلطانه الإلهي، وأيّده بالأعجوبة الباهرة، بأن أمرَ المخلّع: "قمْ احمل سريرك واذهب إلى بيتك"، فامتثل للأمر. عندما هبّ الجمعُ كلَّه مسبّحاً: "لم نرَ مثل هذا قط".

إنّ نظرة يسوع إلى المخلّع هيَ نظرة نابعة من القلب. فالذي دفع يسوع إلى عمليّة الشفاء هوَ حبّه لله وحبّه لإخوته: "إنّ الإنسان ينظر إلى الوجه، لكنّ الله ينظر إلى القلب" (1صمو16/ 7). ولئن وضع يسوع هذه الجملة قيد الممارسة، فلأنّه عرف كيف يستقبل الفقراء والخطأة والغرباء. ففي كلّ إنسان يرى يسوع الكائن البشريّ، ويسعى كي يحرّره من تقاليد المجتمع البالية والمنغلقة. لأنّه غالباً ما نبني جدراناً بالكلمات، بينما المطلوب هوَ بناء الجسور.

يطلب منّا يسوع ألّا ندين الآخرين (متى 7/ 1- 5)، لأنّ ما يريده هو أن نحبّهم، كي يستطيعوا الخروج من وضعهم المأساوي. فالإنسان لا يُحكم دوماً على أعماله: فالمرأة الزانية، وزكّا العشّار ومتّى، هم أشخاص بشريّون، وقعَ نظرُ يسوع المحبّ عليهم، لينطلقوا إلى مستقبل جديد وأفضل. كلّ ذلك لأنّ نظرته هيَ نظرة تُنقذ وتعطي حياة: "وأنا لا أدينكِ، إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة". ما يدلّ على أنّ يسوع لا يسمح لنفسه بأن يَسجن نفسه ضمن ذريّة أو مجموعة، فهوَ يتخطّى عاداتنا وتقاليدنا وأسوارنا ولا يرذل أحداً، لأنّه إنسان حرّ.

مآخذ الكتبة على يسوع:
لدى سماع الكتبة كلام يسوع: "مغفورة لك خطاياك". تشكّكوا وأعلنوا أنّه تجديف، لأنّ الله وحده له القدرة على مغفرة الخطايا التي لحقت به. ويسوع حين يغفر للمقعد خطاياه، فهوَ يغتصب سلطة إلهيّة، وكأنّه يدّعي أنّه الله، وهوَ الخطأ الأعظم الذي بوسع الإنسان أن يقترفه لأنّه يستوجب الموت. لكنّ يسوع يجيب الكتبة بأنّ "لابن الإنسان" سلطاناً على مغفرة الخطايا. إنّها المرّة الأولى التي فيها يظهر لقب "إبن الإنسان" في إنجيل مرقس. وهذا اللقب يؤكّد أنّ يسوع هوَ إنسان كامل حقّاً، بينما يؤكّد لقب "إبن الله"، أنّه الله حقّاً. إذاً، كان ليسوع "كإبنٍ لله"، السلطان على مغفرة الخطايا، و"كإنسان" القدرة على أن يتّحد بنا في عمق حاجاتنا وآلامنا، وأن يعيننا لنتغلّب على الخطيئة. إنّه يشبّه نفسه بطبيب، غير أن مرضاه هُم الخطأة الذين جاء يحمل إليهم الخلاص. وهذا الخلاص الرّوحي يخضع للإيمان، كما فعل مع مخلّع كفرناحوم.

من هذه الأعجوبة نستخلص ثلاثة أمور:

إنّ عجائب يسوع تثبت لنا أنّ البشرى الجديدة التي جال بها في القرى  والمدن ليست محض نظريّة تقويّة تعزّي النفوس، إنّها ديناميّة متأتيّة من الله، وقادرة على تحويل الوجود البشري في كلّ أبعاده الشخصيّة والجماعيّة. فالمهمّشون والخطأة يجدون في لمس يسوع والاتّصال به، ملء كرامتهم في جماعة الأحياء.
بفضل عجائب يسوع، نكتشف أنّ ملكوت الله ليس أمراً نظريّاً أو حلماً عابراً، إنّما قوّة حاضرة بين النّاس. فيسوع لم يكتفِ بتطويبة الفقراء والمضطّهدين فحسب، إنّما عمل ما بوسعه كي ينصر قضيّتهم ويدعَمها، لأنّ الحبّ بحدّ ذاته هوَ فعل عمليّ يجلب الأمل، ولذا يمكننا القول أيضاً، إنّ عجائب يسوع هي بمثابة "خُطَب عمليّة"، موجَّهة إلى المؤمنين.
إنّ يسوع بعجائبه خلّص الانسان بكلّ أبعاده الرّوحيّة والدينيّة والاجتماعيّة والزمنيّة. مايؤكّد على نيّات الله التي ظهرت في حياة يسوع. في هذه الحياة حظيت عجائب يسوع بمكانةٍ هامّة، لأنّها تظهر لنا بطريقة واضحة، إنّه فجّر كلّ طاقات قدرته، وسلطانه وحبّه في خدمة الله وإخوته البشر. نعم! يسوع يؤمن بأنّ الحبّ وحده هوَ نبع السعادة، وهوَ القادر على تحويل عادات مجتمع ضيّق ومنغلق مبني على النبذ والعنف والأنانيّة، إلى عالم جديد يقود إلى الطمأنينة والسلام، شرط أن نعترف بذواتنا وبالآخرين لأنّنا مخلوقون على صورة الله ومثاله.

أمثولات عمليّة:
يدعونا إنجيل اليوم إلى أن يحمل بعضنا بعضاً، كما فعل الأربعة مع المخلّع. وإذا سُدّت الطرق في وجهنا، لا بُدّ من أن نجد وسائل أخرى نصل بها إلى الربّ، لنترقّب الكلمة الخارجة من فمه فتُروي ظمآناً وتشفي جراحاتنا وتصحّح مسيرتنا "العرجاء". وقد رأى بعض الشرّاح، أنّ البيت الذي دخله يسوع وأحاطت به الجموع، قد يرمز إلى القلب الذي يدخله يسوع- الملك، ويقيم مملكته فيه. عندئذٍ تجتمع كلّ طاقات الإنسان، الروحيّة والنفسيّة والجسديّة، ليملك عليها يسوع ويُحلّ فيها بركته.

إنّ الرجال الأربعة يشيرون إلى الكنيسة بأساقفتها وكهنتها وشعبها، وجميعهم معنيّون وملتزمون، بنقل كلّ "مخلّع" بحاجة إلى الشفاء. المهمّ ألّا نبقى متفرّجين أو لا مبالين تجاه مصائب الغير، في زمن كثرت فيه الأنانيّات والإنشقاقات وانتشرت البُغوضات والخصومات. وإذا تمنّعنا عن المساعدة ومدّ يد العون، نكون عندئذٍ نحن المخلّعين. علينا إذاً أن ننقب سقف منزلنا الذي تزحمه الانشغالات، ونكشف قلبنا للمسيح الذي نريده حيّاً فينا.
لأنّ المعجزة الأولى التي اجترحها يسوع في كفرناحوم هي "الغفران"، علينا أن نتذكّر دوماً أهميّة سرّ التوبة. فكلمة الكاهن: "ليحلّك الربّ من خطاياك"، تعمل اليوم باسم الكنيسة، وتقدّم الغفران للمؤمنين. قبل يسوع كانوا يقدّمون الذبائح تكفيراً على خطاياهم، أما في نصّ اليوم، فالذبيحة هيَ المخلّع الذي قدّم نفسه أمام الطبيب الشافي. وبعد نعمة الغفران، أتت نعمة الشفاء، فأحسّ المخلّع فوراً بأنّه إنسان جديد، وأنّه يستطيع من الآن وصاعداً أن يذهب بمفرده إلى يسوع، إذ نال نعمة فوق نعمة، وشفاء فوق شفاء.

صلاة:
تعطّف الّلهم وارتضِ سجودنا وتوبتنا، فننال من غنى رحمتك لنا ولإخوتنا "المخلّعين"، نعمة الغفران والشفاء والمصالحة، وننعم بمرضاتك، وتشعّ سيرتنا بالمحبّة. لك المجد إلى الأبد. آمين.