"كلّنا أعضاء في جسد المسيح السرّي"

مع ريمون ناضر – كانون الثاني 2017

يُخبرنا الكتاب المقدّس في سِفر التكوين أنّه في بداية الخلق كانت الأرض خالية خاوية وروح الله يَرفُّ على المياه ومِن قلب المياه خرَجَت الحياة وكلّ المخلوقات الحيّة. وكذلك عند الطوفان خرَجَت الحياة من سفينة نوح المُحاطة بالمياه. ويقول القديس بولس (1 كور10): "جميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر" ملمّحاً إلى عبور شعب إسرائيل وسط المياه إلى العالم الجديد.

فهناك قصة علاقة بين الحياة والمياه وروح الله والخلق. كان يوحنا المعمدان يعمّد بالماء وهو قال: "أعمّد بالماء للتوبة أمّا الذي يأتي بعدي يُعمّد بالروح القدس والنّار" (مر1-لو3) يوحنا مِثل سائر الأنبياء كان يَعِظ بكلام الله داعياً إلى التوبة والعدالة والقِيَم والسُلوك الجيّد ويُعطي النصائح والتوصيات للإستقامة متوجّهاً إلى الإرادة الإنسانيّة في عقل الإنسان للإلتزام بوصايا الله. أمّا يسوع فبِيَدِه المذرى وهو ينقّي بَيدَرَهُ" ويُعمّد بالروح والنّار وهذا أمرٌ مختلف تماماً. فهو صاحب السّلطان كَونه إبن الله وليس نبيّاً عاديّاً مثل باقي الأنبياء. ففي معموديّة يسوع إنفتحت السماء وهَبَط الروح القدس وسُمِعَ صوت الآب: "هذا هو ابني الحبيب" فمعموديتنا اليوم بالروح القدس والماء هي ليست حركة بشريّة خارجيّة أو إعلان عن شيء ما، بلّ هي عطيّة مجّانيّة من الآب تُدخِل الإنسان بشَرِكة إلهيّة مع الآب والإبن والروح القدس فترفعه من طبيعته البشريّة الترابيّة إلى مستوى الألوهة. المعموديّة هي نعمة من الآب، هي الطعم الإلهي في طبيعة البشر الذي نلناه بتجسّد المسيح وموته على الصليب وقيامته.

فنحن كائنات جسديّة نِلنا الطعم الإلهي ليَجعلنا أبناءً لله. فالمسيح ليس مجرّد نبي أو مُصلحاً إجتماعيّاً بل هو الله.

الروح أي Ruah  بالعبريّة أو Pneuma باليونانيّة يعني "النَفَس" هو نَفَس الآب والإبن، أن تعتمد بالروح يَعني أن تتنفّس بنَفَس روح الله وأن تحبّ بنَفَس محبّة الله وليس المحبّة البشريّة التي يدعو إليها الفلاسفة والأنبياء.

المسيحيّة لا تعني أن تكون فقط إنساناً صالحاً أو طيّباً أو فاعل خير، بلّ هي أن تكون مُطَعّماً بالمسيح وتُشاركه مع الآب بالحياة الإلهيّة، يَعني أن تتألّه. وهي نعمة مجّانيّة عن غير إستحقاق منّا ودون أن نقوم بأي عمل لنأخذها بالمقابل إذ يقول يسوع:"أنا إخترتكم وليس أنتم اخترتموني" (يو15/16).

في الحديث بين يسوع ونيقوديموس (يوحنا 3) يقول يسوع: "مولود الجسد جَسَد ومولود الروح روح". إن كان أحدٌ لَم يولد مِن فوق لن يقدر أن يرى ملكوت الله، وإن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله... يتكلّم عن المعموديّة بالروح ثمّ يقول: "كما رَفَعَ موسى الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفَع إبن الإنسان كي لا يَهلِكَ كلّ مَن يؤمن بهِ بلّ تكون له الحياة الأبديّة ..." لقد رَبَطَ المعموديّة بالروح بإرتفاعه على الصليب، فتكون قد خُتِمَت معموديّتنا بالدم والماء اللذين سالا من جنبه المطعون بالحربة.

المعموديّة هي الباب والمدخل إلى الحياة الروحيّة فمِنها نَدخل إلى كلّ الأسرار وبدونها نبقى خارج الأسرار والكنيسة. فإن لم تكُن الكنيسة أمّنا التي تلِدنا مِن جرن المعموديّة فلَن يكون الله أبانا.

والحياة الروحيّة تتطلّب صيانة وتغذية دائمة من خلال الأسرار وخاصة التوبة والإفخارستيا حيث تتجدّد دائماً معموديتنا.

في المعموديّة ندفن الخطيئة في جرن المعموديّة ونقوم مع المسيح إلى حياةٍ جديدة هي الشركة الإلهيّة مع الثالوث الأقدس شركة الحُبّ الإلهي الذي يؤلّهنا.

فنحن نُولد في الخطيئة حاملين تراكُم خطايا البشر منذ بدء الخليقة، مِثل مرضٍ مُزمنٍ يُنقل إلينا بالوراثة فنحمله في جسدنا كبذار موت دون إرادة منّا. فالمعموديّة هي التي تُخلّصنا من هذا المرض الذي نحمله والذي يجلب لنا الموت "فنَلبس المسيح" ونُصبح أنقياء.

كانت وصيّة يسوع الأخيرة لتلاميذه: "إذهبوا وبشّروا كلّ الأمم وتلمذوهم وعمّدوهم بإسم الآب والإبن والروح القدس (متى28) وكانت هذه الوصيّة هي الهَمّ الأكبر للرّسُل والكنيسة الأولى والرغبة الكبرى على قلبهم. فكلّ فَصلٍ من أعمال الرّسُل يتكلّم عن المعموديّة (أع19/ 1) (أع2/ 41) (أع8/ 26) (أع9/ 18) (أع16/ 33) (أع10/ 44). بطرس وبولس والرسل جميعهم كانوا يُبشّرون ويُعمّدون.

هذه المعموديّة بالروح القدس تجعلنا جميعنا أعضاء في جسد المسيح السرّي. ماذا تعني لنا هذه اليوم؟ هل نعي كوننا أعضاء في جسد المسيح؟ إذا تألّم عضو من أعضاء الجسد فلا تستطيع أن تكون الأعضاء الأخرى غير مبالية أو غير متالّمة. ولا يستطيع العضو أن يعيش منفصلاً عن الأعضاء الأخرى. وماذا يعني أن أكون عضواً في جسد المسيح في عالمنا اليوم؟

فمَجد هذا العالم قائم على: الغنى، القوة، الّلذة، الإفتخار.

ألا نخضع نحن في حياتنا لأمجاد هذا العالم؟ ألا نؤلّه الغنيّ والقويّ؟

ألا نسعى ونركض وراء الّلذة وفخر هذا العالم وشهرته؟ ألا تنحني رؤوسنا وركبنا للأغنياء والوُجهاء وأصحاب السلطة والقوّة؟ ألا نتجنّب الفقراء والمهمّشين والمحتاجين والمتألّمين؟ ألا نزدري بالضعفاء والمساكين؟

إنّ مَن كان في المسيح لا ينحني ويخضع لأمجاد هذا العالم، بلّ يعيش في التطويبات التي قالها يسوع للفقراء والضعفاء والمهمّشين والأنقياء والجياع، فحيث يكون المسيح هناك يجب أن أكون أنا المُعَمَّد بروحه القدّوس وليس زاحفاً وراء أمجاد العالم وخاضعاً لسلطانه.

لقد اجتاح الروح القدس القدّيسين وحوّلهم وجعلهُم يتخطّون الطبيعة البشريّة ويصنعون العجائب في هذا العالم وهذه دعوتنا اليوم: أن نكون قدّيسين أعضاء في جسد المسيح، نسعى لِمَجد الله مُخضّعين أمجاد هذا العالم الفاني لروح الله الذي فينا فنكون أبناءً حقيقيّين للآب السّماوي وبِنا يكون سروره.

صلاة:

يا حمل الله الحامل خطايا العالم، إرحمنا. (3 مرّات)