"هذا النوع من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة"

"هذا النوع من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة"

زمن الصوم هو زمن العودة إلى الذات وإلى الله، زمن الصلاة والتخلّي عن القشور للعودة إلى الأساسيّات الجوهريّة، هوَ زمن نعيد خلاله طرح الأسئلة الكيانيّة: من هوَ الله بالنسبة لي؟ من أنا؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ما هي الأمراض التي أريد أن أشفى منها؟ ما الذي يعيق تقدّمي نحوَ الحياة الأبديّة؟ فزمن الصوم هو زمن تطهّر وشفاء. نقدّم نفوسنا إلى الله ونعبر صحراء الصوم مع المسيح فيطهّرنا ويشفينا ونقوم معه إلى حياةٍ جديدة.

منذ بدء الخليقة والشيطان يجرّب الإنسان ليبعده عن الله. نذهب في تأمّلنا اليوم في الكتاب المقدّس إلى أوّل تجربة تعرّض لها آدم في الجنّة من قبل الشرّير وسقط فيها، ثمّ إلى التجارب التي تعرّض لها يسوع، آدم الجديد، في البريّة وتغلّب عليها. على ضوء تأمّلنا هذا، نقتدي بالربّ يسوع لمواجهة التجارب التي نتعرّض لها يوميّاً ونتغلّب عليها. أراد الله للإنسان ملء الحياة، فخلقه في جنّة وأعطاه روحاً من روحه وجعله على صورته كإبنٍ لهُ وأعطاه كلّ شيء وسلّطهُ على كلّ شيء. لقد وهبه جميع ثمار الجنّة وأطلق لهُ الحريّة في التعامل مع هذه الثمار كما يريد، أي أن يتصرّف بالخلق والمخلوقات بحسب المواهب التي منحه إيّاها ليبدع ويشارك الله الخلق والحياة.

لكن في وسط الجنّة كان هناك شجرة معرفة الخير والشرّ. لقد حذّر الله آدم وحوّاء من أكل ثمار هذه الشجرة لئلّا يموتا. هذا يعني أنّ الله قد أعطى الإنسان كلّ شيء وحريّة التصرّف بكلّ شيء، ولكن نبّهه أن من يقرّر ما هوَ خير وما هو شرّ هو الله الخالق، وليس الإنسان المخلوق. وقد وضعَ الله شجرة المعرفة في وسط الجنّة وليس على أطرافها للدلالة على أهميّتها ومحوريّة وجودها في حياة الإنسان. فإرادة الله هي الأساس وهوَ المرجع والأصل. لكن آدم سقطَ في التجربة بواسطة حوّاء بإغراء من الشرير وأكلَ من ثمرة الشجرة أي أنّه أراد أن يكون هوَ مكان الله ويقرّر ما هوَ خير وما هو شرّ، ويجعل نفسه هو الأصل بدل الله. من هنا الخطيئة الأصليّة أي تأليه الذّات بدل الله وجعل الذات هي المحور في الوسط بدل الله. ونتيجة هذه الخطيئة كانت بأن انفصل الإنسان عن الله وطُرِد من الجنّة إلى الصحراء وبدل الأشجار والثمار والحديقة، أصبح في الصحراء التي تُنبت له شوكاً وحسكاً. طرد الله الإنسان مِنَ الجنّة إلى الصحراء. في العهد الجديد نرى يسوع يدخل الصحراء ويواجه الشرّير وينتصر على التجارب، ليعيد الإنسان من الصحراء إلى الجنّة.

أخضع الشرير يسوع، إبن الإنسان، إلى ثلاث تجارب:

الأولى:
"تجربة إشباع الذات وتلبية الرغبات الجسديّة والأهواء وإكفاء الحياة بالماديّات وتأليه المادة والجسد. "إن كنت ابن الله.... حوّل الحجارة إلى خبز: أي إستعمل ما أعطاك الله من مواهب وطاقات لإكفاء حاجاتك الماديّة ورغباتك الجسديّة فكانَ جواب يسوع: ليسَ بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله.... الله هوَ الأساس وليس المادة.

الثانية:
تجربة مجد العالم والفخر والشهرة: أقام الشرير يسوع على جناح الهيكل، على قمّة المكان حيثُ تدور كلّ محاور الحياة. فالهيكل كانَ مركز الحياة الروحيّة، والإجتماعيّة، والإقتصاديّة والسياسيّة.... على جناح الهيكل هوَ المكان الأعلى حيث يراه جميع النّاس ويمجّدونه فيظنّ الإنسان أنّه أصبح مكان الله، لا بل أعلى منه، وهو أصبح قادر أن يجرّب هوَ الله ويأمره فيطيعه الله. طلب الشرير من يسوع أن يرمي نفسه ويجرّب الله الذي سيطيعه ويأتي لحمله على أجنحة ملائكته. فكان جواب يسوع، لا تجرّب الربّ إلهك.... الله هوَ المرجع وليس أنا وأنا أثق بهِ وبإرادته.

الثالثة:
تجربة السلطة والسيطرة. أخذه على قمّة جبلٍ عالٍ أراه كلّ ممالك الأرض التي دُفعت إليه وأصبحت تحت سيطرته وعرَضها على يسوع مقابل أن يَسجد له. أعطيك السلطة على العالم والقوة شرط أن تسجد لي. جواب يسوع كان: إنّ الله هوَ الأساس وهو الأصل: للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد. إنّ الله هوَ صاحب السلطان. إنهزم الشرير أمام الربّ يسوع "ولمّا أكمل كلّ تجربة فارقه إلى حين".

فمنَ البريّة حتى الصليب لحق الشرّير بيسوع يجرّبه: "إن كنت ابن الله..."

هَمّ إبليس الأوّل والأخير هو إبعاد الإنسان عن الله. أن يجعل الإنسان يعبد ذاته بدل الله فيلهيه بالماديّات والجسديّات ومجد هذا العالم وحبّ السلطة والسيطرة، وكم من مرّة نقع في إحدى هذه التجارب كلّ يوم أو فيها كلّها أحياناً.

في زمن الصوم يقودنا الرّوح إلى الصحراء كما قادَ يسوع لنواجه التجارب مقتدين بيسوع، لنعود إلى الأساسيّات. لنتوقّف عن التلهّي ونركّز على الجوهر ونُعيد السيطرة على حياتنا بوضعها تحت مشيئة الله وإرادته.

يقول القديس يعقوب في رسالته الفصل 4: من أين الخصومات والحروب بينكم؟ أليست مِن هنا؟ من لذّاتكم المحاربة في أعضائكم؟

ففي داخل كلّ إنسان حرب بين رغباته وشهواته وأهوائه التي تحارب من أجل السيطرة عليه واقتياده إلى حيث تريد وترغب. فينقاد الإنسان كلّ فترة وراء إحدى شهواته التي تُسيطر عليه وتأخذه حيث لا يريد.

وهذِه الحرب الداخليّة تؤدّي إلى الحروب الخارجيّة والخُصومات والبعد عن الله. يشبّه آباء الكنيسة هذه الشهوات بالأحصنة التي تجرّ العربة وكلّ حِصان يريد أخذ العربة بالإتجاه الذي يرغب به. فعلى سائق العربة الذي هو الإنسان أن يروّض الأحصنة ويسيطر عليها ويأخذ العربة بالإتّجاه الذي يريده هوَ ليصل إلى مبتغاه. فقيادة الأحصنة تتطلّب تدخّلاً خارجيّاً لذلك أهواءنا ورغباتنا تتطلّب تدخّلاً خارجيّاً للسيطرة عليها وهوَ الروح القدس، هوَ عمل الله في الإنسان. وهذا من خلال الصوم والصلاة وإطلاق يد الله في العمل في نفوسنا ليروّض شهواتنا ويدجّنها. وحواسنا أيضاً هيَ مثل الأطفال يلجّون في طلباتهم لإكفاء رغباتهم يلجّونَ ويلحّون لنيل ما يرغبون ويريدونه الآن وبأسرع وقت، فإذا لبّينا دائماً كلّ ما يطلبون وكما يريدونه دون قياس وحكمة، فحتماً سيسيطرون علينا ويخرجوا عن سيطرتنا ويفسدون. إنّ الإنسان يجمع في كيانه الحيوان والإله، الجسد والروح.

نصلّي ونتأمّل ونفكّر ونحلّق عالياً بالرّوح وفي نفس الوقت نجوع ونعطش ونتعب ونشتهي... إنّ الله يدعونا أن نوحّد رغبات الجسد وأهوائه مع رغبات الرّوح، ونضعها جميعها تحت إرادته ومشيئته وعمل روحه فينا. يدعونا أن نصالح رغباتنا مع إرادته. أن نصالح الحيوان فينا مع الملاك فينا. يقول مرقس في إنجيله كانَ يسوع مع الوحوش والملائكة تخدمه. وهذه هي حالنا عندما نقتدي به.

هدف الصوم ليس تعذيب الجسد بل إنطلاق الروح بالعبادة، وهذا يؤدّي إلى الشفاء.

الطريق إلى الشفاء الجسدي يبدأ بتشخيص المرض. فحْص أشعّة أو فحْص دم. نكتشف الدّاء الذي يضرب فينا عندما نقارن نتيجة فحصنا بالصورة الصحيحة. وهذا يتمّ من خلال الكتاب المقدّس الذي يعطينا الصورة الصحيحة.

ثانياً بعد التشخيص يبدأ العلاج، فالإنسان لا يُشفى تلقائيّاً بمجرّد معرفة مرضه. يتمّ العلاج بالصلاة والصوم والعبادة الحقّ وتقديم الذّات للطبيب الشافي يسوع المسيح الذي هوَ يشفينا. فالشفاء هوَ عمل إلهي وليس جهداً شخصيّاً. فالجهد الشخصي الوحيد الذي نقوم به هو تقدمة الذّات للربّ يسوع وهوَ يلمسنا ويشفينا. ونتيجة الشفاء هوَ الفرح والسلام والمحبّة والحياة الجديدة.

مسيرة الصوم توصلنا إلى الصليب، عندَ أقدام المصلوب لاكتشاف حبّ الله لنا اللامتناهي واللامحدود وغير المعقول من البشر، وهذا الحبّ هو الذي يشفينا عندما نمتلئ منه. فالصوم إذاً ليس فرضاً بل هوَ عمل حبّ نتّحد بواسطته بالمسيح، نموت معه عن خطايانا ونقوم معه إلى حياةٍ جديدة بالفرح والنور.

الصوم هو رحلة البحث عن العريس، البحث عن المحبوب بشوق ولهفة للقاء به "متى رُفع العريس من بينهم يصومون" متى 9/15،   مر2/19 ،  لو5/34.

الصوم هوَ زمن هدوء وانسحاب من ضجيج العالم، زمن صلاة واتصال دائم مع الله، وهوَ زمن حرب مع الشرير ومواجهة مكايد ابليس وكذبه علينا وخداعنا، هوَ زمن التعمّق بكلمة الله في الكتاب المقدّس، هو زمن السجود النهائي لله الحقّ، هو زمن تثبيت الإيمان وتشديده، الإيمان بذلك الذي صلبَ ومات عنّا وقام ليخلّصنا مِن موتنا. هوَ زمن تعزيز الثقة بالله والتسليم لإرادته ومشيئته.

في زمن نلهث فيه راكضين وراء المادّة لإشباع رغباتنا وأهوائنا وشهواتنا، في زمن نسجدُ فيه مئة مرّة لإبليس في النهار ونقع في تجاربه وكذبه وحيله، في زمن يزعزع نفوسنا حبّ السلطة والسيطرة وفي زمن يبهرنا مجد هذا العالم المزيّف، وفي زمن نتلهّى به عن الله بأصغر الأشياء وأتفه الأمور.... نعود إلى ذاتنا ونعود إلى الله ونطلب منه أن يزيدنا إيماناً ويعين عدم إيماننا ونصوم ونصلّي لنطرد الشيطان من حياتنا ونصبح كالملائكة كأرواح متحرّرة تسبّح الله وتعبده فنرتقي بالحبّ الإلهي مع المصلوب ونكون حقاً أبناء لله. هذا ما عاشه بيّ عيلتنا مار شربل طوال حياته وهذا ما يدعونا اليوم أن نعيشه. 

صلاة:
"قُدني، أيّها النّور اللطيف خلال الظلمات التي تكتنفني. قُدني أنتَ دوماً إلى أبعَد فالليلُ دامِس، وأنا بعيد عن الدّار. قُدني أنتَ دوماً إلى أبعَد واحفَظ خطواتي".

الكاردينال جون هنري نيومان.

 

مع ريمون ناضر، اذار 2017 - كنيسة مار شربل - أدونيس