"تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8/32) - الأب ادمون خشان ر.ل.م.

 عيلة مار شربل الجمعة 30/11/2002
لقاء مع الأب ادمون خشان ر.ل.م

(ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو اقرب الى اللغة العامية).
الموضوع: "تعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8/32)
كثيراً ما يتكلّمون عن الحق والحريّة، لا سيّما هذه الأيام، ولكن هاتين الكلمتين لا تأخذان أبعادهما، وبالتالي لا تُعاشان.
أمّا نحن، كمؤمنين بالمسيح وبتعليمه، ماذا يعلّمنا كتابنا المقدّس عن هذا الموضوع، ليس لنتكلم ونلقي مواعظ ومحاضرات، بل لنعيش ونحقق خلاصنا.
إطار هذه الآية: الفصل الثامن من إنجيل القديس يوحنا، وبدورها احداث الفصل هي انّ يسوع في الهيكل بين جماعة من اليهود، وهناك تتوالى الأحداث كما يلي ثمّ...
يسوع يعلن ذاته نور العالم، ويعلن ايضاً لليهود أنّه إلى حيث يمضي لا يمكنهم المجيء وسوف يموتون بخطيئتهم، وعلى هذا الموضوع يجيب اليهود أنهّم أبناء إبراهيم ولم يستعبدهم أحد قط، فيقول لهم يسوع "مَن فعل الخطيئة كان عبداً للخطيئة، والعبد ليس بحرّ، وأنتم أبناء الشيطان" أبو الكذب والكذابين... في هذه الأجواء التّي منها يتألف الفصل الثامن من إنجيل القديس يوحنا سنركز على الآية 32، ونعطي شرحاً لها انطلاقاً من تعليم الكتاب المقدس.
الحق: للحق وجهتين: إجتماعية ودينيّة.
من الناحية الإجتماعية: قد يكون الحقّ حقاً جماعياً، وهو نظام تقرّه وتفرضه جماعة معينة، وتسعى بكامل أفرادها عيش النظام الذي اقَرّته... وهنا يدخل مبدأ النسبية، أي الجماعة التي اتّفَقَت على نظام معين في مكان وزمان ما، يمكن أن يكون لهذه الجماعة، أو لغيرها، بعد حين، ببعض جوانبه على شيء من الحق أكان جماعياً او فردياً، فنقول مثلاً: حقّي (فرد) حقنا (جماعة)، وهنا ايضاً مجال آخر للنسبيّة، ودون إسهاب في الموضوع نتوقف عند هذا الحدّ.
أما الحقّ من الناحية الدينية: فهو"معرفة التعليم الصحيح". فعندما نسمع أي تعليم، علينا ان نتأكد من صحة هذا التعليم، لأنه حقّ لي أن اعرف، ومعرفتي يجب أن تكون صحيحة، فمثلاً على ذلك: كثير من الأشخاص يقرعون أبوابنا بُغية إعطائنا تعليماً عن موضوعٍ ما، فحقّي أولاً أن اعرف، ومن ثمّ هل المعرفة التي اتلقّاها منهم صحيحة أم لا، بعيدة عن الضلال، إذ من حق المعرفة الدينية ان تكون صحيحة.
هنا لا بدّ من أن اتنبه إلى موضوع هام، وهو: إذا كانت قدراتي العقليّة لا تتمكن من استيعاب أبعاد "المعرفة الجديدة"، فهذا يعني أن المعرفة هي خطأ، ولكن يجب عليّ ان أسعى وأتقوّى بالمعرفة الدينيّة حتى اتمكن من إدراك الأبعاد الجديدة للمعرفة الصحيحة، وإلاّ فانا لست على طريق الحقّ بل على طريق الضلال. ما ينكشف هو حقيقة، حتى بالأمور الدينية، لهذا كشف الربّ ذاته (ونحن في زمن الميلاد) أن "يتجلى" للعالم، لم نكن نسمع هذا الكلام... نحن نعيش في مجتمع متعدد الأديان، فالدروز مثلاً، لايكشفون تعليم معتقدهم إلا بعدما يصل الرجل إلى ما فوق الثلاثين من عمره، بالمقابل نحن، كمسيحييّن نُعطي أولادّنا منذ صغرهم الحقائق الدينيّة، ونكشف لهم ما انكشف لنا، ونعلّمهم ما تعلّمناه وما نعرفه أو ما نسعى إلى معرفته، فهذا كله حقيقة، لأنه اصبح ملموساً، نعيش بالواقع المحسوس، لذا قال القديس يوحنا: "الذي رأيناه، الذي سمعناه، الذي لمسناه، به نبشركم". المحسوس هذا، يضعنا في إطار الحقيقة، ولكن هذا لايكفي، إذ أنه من الممكن ان نلمس المسيح، ان نكلّمه، أو نسمعه دون أن نلتقي به، ومن المعلوم أنّ اللقاء هذا هو موقف إيماني، يمسّني من الداخل، يبدّلني، لذا قال السيد المسيح: "...طوبى للذين لم يروني وآمنوا..." إختبارنا هذا مع المسيح، هو نفس اختبار الجماعة الأولى: هم رأوه ولمسوه وسمعوه واكلوا معه... ونحن نعيش بالإيمان، يعني اختبار اللقاء مع يسوع.
عاش المسيح في إطار يهودي ولكن كثيرين منهم لم يلتقوا به، واليوم هناك بعض من المسيحيين لم يلتقوا بالمسيح، أي لم يتبدلوا من الداخل،( أللهم احفظنا من الشرّ واعطنا نعمة اللقاء بك).
المتبدل ليس بحقيقة، ولكن الثابت الذي يجتاز الزمن هو حقيقة، وحقيقة مطلقة، والمسيح هو "أمس واليوم وإلى الأبد"، هو ثابت لايتبدل ولا يتغير، وأجددادنا كانوا يرددون: "سبحان الذي يغير ولا يتغيّر"، هذا يعني أن يسوع هو ثابت، حقيقة، ونحن لا نبتكر كلّ يوم نظريّة جديدة عنه، وما قلناه بالأمس لا ننقضه اليوم ونتبنّى شعاراً جديداً، فهنا ليس من مجال للحقيقة، "اذاً تعرفون الحق"، كلمة يستعملها القديس يوحنا، نقلاً عن كلام السيد المسيح، وهذه الكلمة تدل على مخطط الله، وهي تعني لليهود، انتم تعرفون مخطط الله، (والإطار: يسوع في حوار مع اليهود)، وانتم تعرفون مواعيد الله، وتعرفون التوراة وتعليم الأنبياء وكل ما تعلمه الكتب المقدسة، وهذا كله ارادة الله، إنه حق، وبهذا اصبح الحق ارادة الله... وعبارة "تعرفون الحق" فيها دلالة واضحة على انّ اليهود ليسوا عبدة أصنام، فهم يعبدون الإله الواحد الحقّ، هذا ما نادى به النبي إيليا على جبل الكرمل. اذاً كلمة حقّ في هذا الإطار تعني مخطط الله، وتعني ايضاً انّ الله هو ثابتٌ ولا يتبدل، وتعني ايضاً ان كلّ مواعيد الله تحقّقت في شخص المسيح يسوع.

كان اليهود يفاخرون بعبادتهم للإله الحق وتعليمه، وهذا ما يعني كلمة "شريعة" فذاك الرجل الذي جاء إلى يسوع كان يفاخر أنه يعرف الشريعة: صوم، صلاة، صدقة، تطهير نجس... الوصايا... كانت الشريعة بالنسبة إليه مجموعة نظم وقواعد حفظها منذ صباه ستساعده على دخول الملكوت، ظنّ أنه على الحقّ، لكن يسوع اراد اكثر من ذلك، انه يدعو إلى معرفة الحق بالشريعة، ومن هوَ الحق بالشريعة؟ إنه يسوع نفسه، فإذا لم يستطيعوا الوصول إلى الحق من خلال الشريعة، فتتحول الشريعة معهم إلى مجموعة شرائع متحجّرة وتحجّر الإنسان.
كان يعتقد اليهود انهم إذا عاشوا الشريعة حرفياً سيصلون إلى الله، ولكن وبالنسبة للقديس يوحنا، الحقّ هو يسوع ذاته، وهذا ما نجده عبر إنجيل ورسائل القديس يوحنّا الأولى، الفصل الأول، الآية رقم 8: "لم تكونوا على الحق"، أي لم تتبعوا المسيح، ويضيف "اتتنا الشريعة على يد موسى"، والحق مع من اتى؟ لقد اتى مع يسوع (راجع يو1/17). اذاً كلمة: "تعرفون الحق والحق يحرركم" تعني: تعرفون المسيح، وإذا سعيتم لعيش تعليمه، تخرجون من الشريعة المتحجرة إلى الحقيقة الأكيدة، وإذا لم تعرفوا الحق: "تموتون بخطاياكم". فعدم معرفة الحقيقة يوصل إلى الموت.

ويضيف القديس يوحنا: "انه الحق نفسه" وهذا دلالة على شخص يسوع بالتأكيد. اذاَ بيسوع جاءت الحقيقة كلها وانكشفت للعالم، واذا أردنا أن نعود إلى الإطار (حوار يسوع مع اليهود) نرى أنّ يسوع يسعى إلى أن يفسّر لليهود الشريعة المتحجرة غير مهمة: أتوه بالمرأة الزانية ليرجموها، كما تقول الشريعة، ولكنه رفض إصدار الحكم، ذلك ليقودهم إلى عالم الروح الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بسبب تحجّرهم ويسوع لا ينفك يتكلم بالحق وليس بالباطل. وهنا نعطي مثال على ذلك: قد يأتي شخص من مكان ما ويبلغنا انّ هناك حدث ما، فنقول له معك حق لأننا نحن لم نر، ونسلّم إلى حد ما بصدق الموضوع، فنحن نميل إلى التصديق، بالرغم من بعض الشكّ... ويسوع جاء ليكلّمنا عن الآب، قال: "انا بما رأيت أكلّمكم، هذه شهادتي، ولكنّكم لم تقبلوها" يعني لم تقبلوا الحق، لم تقبلوا كلمة الله، أي يسوع ذاته، هو كلمة الله، "ففي البدء كان الكلمة..." (يو 1)... "انا اتكلم بما رأيت"، ماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لليهود؟ انها تعني انّ الذي يكلمهم هوَ إله، كان عند الآب، رأى ما عند الآب، وها هو يخبرنا. من هو الذي كان عند الآب؟ انه المخلّص، وها قد أتى ولِما لا تريدون أن تعرفوه، إنّه الحق؟! هذه الكلمة تدل على ألوهية يسوع إبن يوسف النجّار من الجليل. الحق أصبح بينهم وهم لم يعرفوه ولم يقبلوه. ولكنّ يسوع ذاته، بعدما أنهى تعليمه واقتربت مرحلة آلآمه كلّم تلاميذه والجموع عن "حق آخر" سيرسله اليهم بعد موته وقيامته ويبقى معهم، إنه الروح: روح الحق المنبثق من الآب، سيبقى مع التلاميذ (والمؤمنين) ليذكرهم بكلام يسوع وينقلهم من الشريعة إلى الحق، فأحياناً كثيرة نعيش في "شريعة مسيحية": انا قدّست، انا صلّيت.... وبهذا انا ضامن السماء... وهذه الشريعة خاطئة غير صحيحة، مضلّلة، ومن يعلمنا هذا؟ انه الروح الذي هو معنا، يعلمنا، يفهمنا ويرشدنا، الروح القدس يرشد التلاميذ، يقول القديس يوحنا في الفصل 16 الآية 14: "... الحق، كل الحق..." وليس جزء من الحقّ، لأنه ظهر عالمنا بكليته، ولم يخبىء شيئاً في عالم الألوهة، اذاً نحن مدعوّين إلى معرفة المسيح ككل لا بعضاً منه، وعليه لا يمكننا ان نأخذ من تعليم الإنجيل آية ونترك أخرى، فالإنجيل هو المسيح، إما ان نأخذه كله او نتركه كله، فعندما نتناول جسد الرب هل نأخذ بعضاً منه او نأخذه كله؟ هل اعطانا الربّ بعضاً منه أم اعطانا ذاته بكليتها؟ اذاً نحن مدعوين إلى معرفته بالكامل، والروح هو مَن يساعدنا إلى معرفة "كل الحق".

كان لليهود مشكلة إذ لم يقبلوا المسيح، والمشكلة كانت موضوع الحريّة، فيسوع يقول لهم "تعرفون الحق والحق يحرركم"، وموضوع الحرية هو أساس في الإنجيل وفي الإيمان بشكل خاص، فهو الذي قال ايضاً للشاب الذي يطلب الملكوت: "إذا شئت ان تكون كاملاً"، فالحرية نتيجة فعل إرادة، نقرر العيش مع إلهنا، ونتيجة ذلك هي الحرية التي هي ميزة مجتمعنا المسيحي.

وقبل الغوص في الموضوع لا بدّ من التذكير أن القدّيس بولس ينبّهنا بأن لا نجعل الحرية مدخلاً إلى الفوضى. فالحرية هي حرية والفلتان هو فلتان وليس بحرية، كما يدّعي البعض. والحرية في الإنجيل هي أن نعيش كلنا كأبناء لله. "تعرفون الحق والحق يحرركم" كلمة قالها يسوع لليهود في الهيكل، وعندما قالها لهم ماذا تذكروا وماذا فهموا؟ إنها ترسم أمامهم مراحل تاريخهم الطويل: من مصر بلد العبودية، إلى الخروج منها نحو الحرية في أرض الميعاد، لذا هم يرفضون سماع مثل هذه الأقوال، لانها توقظ ذاكرتهم إلى عالم الشقاء، ومن هنا نلاحظ جوابهم السريع: "نحن أبناء إبراهيم ولم يستعبدنا أحد قط..." ويجيبهم يسوع: "من فعل الخطيئة كان عبداً للخطيئة، والعبد ليس بحرّ"... وكأن اليهود يقولون ليسوع: ماذا جئت تقول لنا، لا همّ عندنا سوى التحرّر من نير الرومان، إنهم بذلك يعترفون بنوع من عدم الحريّة المدنية، ولكن كبريائهم يمنعهم من الإقرار بذلك ومحاورة يسوع كما يريد (على ذات الموجة)، ويضعون شرطاً لتصديق يسوع وقبول رسالته "أقصِ عنا الرومان لنؤمن بك انك المخلص الحق، ونحن نصدق كل شيء ونتبعك". ولكن موقف يسوع واضح وصريح: إنه يحرّر داخل الإنسان من الخطيئة. ولو اردنا ان نعطي مثلاً على واقعنا اللبناني نقول: ليست الحريّة الوطنية بجلاء جميع الجيوش الأجنبية عن ارض الوطن، بل هناك قبل ذلك حرية القلب والفكر التي تؤدي إلى ديمومة الحريّة الوطنية...
والحريّة الدينية هي حريّة القلب من عبادة الإله الحق، والا يبقى قلباً مضطرباً بعيداً عن العبادة الحقة بالروح. ومن ثم لا يمكننا تمييز التعليم الخطأ من التعليم الصحيح، وبالتالي نحن في ضلال بعيدين عن الطريق الصحيح، والعلية هنا في دير عنايا حيث تجتمع "العيلة" هي مثل علية صهيون التي فيها عمل الروح يفيض على التلاميذ ليذكرهم ويجعلهم يتكلمون بألسنة عديدة، ليس للتباهي و"نفخ العضلات" إنما في سبيل بشارة لا محدودة في الزمان والمكان، وبالأخص تلك التي تطال الإنسان وتسعى لشمولية كونية.

من المعلوم ايضاً أن رسالة الأنبياء في العهد القديم، اصطدمت أحيانا كثيرة بكثير من العقبات والمواقف الفاشلة، فموسى الكليم، قائد الحريّة من مصر إلى أرض الميعاد، جاز بقيادته للشعب العبراني، بعدة اختبارات سلبيّة (عبادة العجل، المن والسلوى، الحية النحاسية...) بالإختصار، يمكننا القول أن موسى فشل، نوعاً ما، بنشر الحريّة على كافة الأصعدة، حتى أنه هو عينه لم يدخل أرض الميعاد، بل مات خارجاً عنها. كذلك فشل النبي إيليا في نشر عبادة الإله الحق، وما احداث جبل الكرمل سوى دلالة صريحة على ذلك... وبشكل عام، نعرف ان كلمة "زنى" في الكتاب المقدس لا تعني فقط العلاقة الجنسية خارج اطار الزواج، إنما لها ايضاً معنى آخر وهو معنى الإشتراك في العبادة بين الإله الواحد والآلهة الأخرى، وكم ندّد الأنبياء بهذه الظاهرة التي ظلّّت مستمرة حتى بداية العهد الجديد والحوار الذي دار بين يسوع والسامرية على بئر يعقوب، كما يذكر إنجيل القديس يوحنا، ليس سوى دلالة واضحة على الموضوع. كل هذا ليس سوى فشل رسالة التوحيد في الإطار اليهودي، أي في نقل ذهنية الشعب وقلبه إلى نوع من الحرية الدينية. وبالرغم من كل العلامات والأحداث التي كانت تدور في تاريخ وإطار المجتمع اليهودي، كالسبي مثلاً وتدنيس الهيكل وخرابه، وبالرغم من قساوة هذه الأحداث على الفكر الديني اليهودي، كما نلاحظ من مرائي ارميا وسواه من نبوءات الأنبياء، هذا "التأرجح" ظلّ مستمراً في ذهنية بعض اليهود حتى ايام المسيح، كما ذكرنا سابقاً، فنلاحظ مثلاً اختبار تلميذي عماوس وتلميحهم إلى موضوع الحرية الذي كانا يأملان كما سواهما، أنّ يسوع سيحقّقه، لكنّ موته على الصليب بدّد هذا الأمل، وحلّت خيبة الأمل، ولكن بعد تدخل يسوع القائم من القبر، فهما أن الحريّة الحقّة هي في "الداخل"، فعادا يبشران بالقيامة، مع ما تحمل هذه الكلمة من أبعاد حرية حقيقية، حتى الموت.

بعض شخصيات يهودية في العهد القديم، فهمت معنى الحرية. فالآية 8 من المزمور 130 تقول: "... وهو يفتدي اسرائيل من جميع آثامه"، أي أنه يحرّر إسرائيل من كل ما يأسره داخليا". كذلك المزمور خمسين يشدد على نقاوة القلب والروحية الجيدة: "قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد في أحشائي" وبالرغم من الوعي الروحي العميق، ظلّت أغلبية الشعب تنادي بتحرر مادي، فكانت فكرة اليوبيل: "روح الرب عليّ، مسحني لأبشر المساكين وأعلن السنة المقبولة عند الرب"، هذا ما قرأه يسوع في سفر أشعيا، والمقصود بالسنة المقبولة عند الرب هو بداية تحرير لا ينتهي، من هنا نفهم قول يسوع: "تعرفون الحق والحق يحرركم"، أي تعرفون يسوع المسيح الإله الحق الذي يعطي الحرية الدائمة لكل إنسان في كل زمان وكل مكان.

هنا ندخل في تأوين مباشر لنص الإنجيل، انطلاقاً من تعليم يسوع عن الحرية بحسب إنجيل القديس يوحنا، فالحرية المسيحيّة هي العيش كأبناء لله "فإذا حرركم الإبن صرتم احراراً حقاً". اذاً يسوع محررنا، وذلك بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات. فالحرية الصحيحية هي أن نلتقي بيسوع، أن نتبدّل، وبهذا تقوم الحرية الحقّة. وإذا لم يحصل هذا اللقاء، وبالتالي التبدل، لا نتحرر، بل نبقى في العبودية. ويوضح لنا القدّيسان يوحنا وبولس أبعاد العبوديّة، فهي اولاً عبوديّة الخطيئة، لأن "من يعمل الخطيئة صار عبداً للخطيئة، والعبد ليس بحرّ"، لم يوضح الرسول ولم يقل ابداً العبوديّة هي وجود جيش أجنبي على أرضنا، بل هي عبوديّة الخطيئة، قد يمكن للآخر أن يملك مقتناك ولكنه لا يمكنه أن يملك قلبك، إذا شئت. ونحن كمسيحيين نتربى تربية تساعدنا على التمييز والمعرفة: "إختبروا كل شيء وانتقوا الأفضل". مثال ذلك: انا بذاتي اخترت القدوم إلى عنايا والإشتراك مع "العيلة"، لأني وجدت هنا طريقاً تقربني أكثر صوب هدفي، أي صوب المسيح... نحن نربّي أولادنا تربيةً صحيحة تساعدهم في المستقبل على تجنّب الشرّ وتبني الخير.

إذاً بالمسيح غفران الخطايا، وهذا هو أول تحرير أو تحرّر يعطينا إياه يسوع المسيح. امّا التحرّر الثاني، هو نتيجة الخطيئة الموت، والموت حسب سفر التكوين، ملازم للخطيئة. ولكن بولس الرسول يعطينا تعليماً جديداً، على ضوء القيامة، فيقول: "اين شوكتك يا موت؟... فالمسيح قام وهو البكر في كل شيء... لقد وطىءَ الموت بالموت..." ليس من موت بعد قيامة المسيح، ولكن ونحن ما زلنا في الجسد سائرين على هذه الأرض، فنحن معرضين للموت حتى نحتفل بانتصارنا على الموت بالقيامة التي هي الولادة الجديدة في العالم الثاني. "نحن نعلم اننا انتقلنا من الموت إلى الحياة"، بالمختصر، نحن تحررنا لأننا عرفنا الحقّ الذي هو المسيح يسوع، نقلنا معه من الموت إلى الحياة، مثال ذلك القديسين ولا سيما مار شربل الذي نحن في ضيافته.

فالزمن المسيحاني ابتدأ بقيامة المسيح، وكل واحد منا مدعو إلى عيش هذا الإختبار، "فنحن لسنا في حكم الشريعة بل في حكم النعمة" (روما 6/15)، تحكمنا نعمة الربّ التي توجّه حياتنا وتساعدنا. نحن نعرف الحقّ الذي يوصلنا إلى الحياة، لا نعرفه فقط، بل قبلناه بالعماد ايضاً، ونقبله دائماً بالأسرار. بالعماد أصبحنا أبناء الله الآب، أخوة للمسيح يسوع، هياكل للروح القدس، فنحن بدأنا رحلة الحرية، فالمسيحي الذي عرف الحق وتحرّر يصبح إلهاً، وليس من إله عبد، بل الله هو الحرية. أن نحب الله والإنسان، فهذه من أسمى علامات المسيحية: "فالذي يقول انه يحب الله الذي لا يراه، ولا يحب أخاه الذي يراه كان كاذبا"، والذي يكذب يكون ابناً للشيطان وليس إبناً لله، لكننا نحن ابناء الله، ابناء الحق والحرية، نحن نعرف "الطريق" المؤدي إلى "الحق" وبالنتيجة "الحياة الأبدية". وهذه هي النبوءة الحقة لله.
آمين.