من أجلنا ومن أجل خلاصنا

لقاء الأربعاء 5 كانون الأول 2018 - مع ريمون ناضر

إنّ زمن المجيء أو زمن الميلاد أو زمن التجسّد هوَ الزمن الذّي فيه نتأمّل بالإبن. الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الذي نزل من السماء وصار إنساناً من أجلنا ومن أجل خلاصنا، متجسّداً من الروح القدس ومِن مريم العذراء.

يقول القدّيس يوحنا في مقدّمة إنجيله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله." (يو 1/1) ويوازي في مقدّمة إنجيله هذه مقدّمة الكتاب المقدّس في سِفر التكوين الذي يكلّمنا عن بداية الخلق. "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (تك 1/1) يريد القديس يوحنا بذلك أن يقول لنا إنّ الله بدأ مع يسوع إبنه خلقاً جديداً. فكما خلَقَ الله الآب الكون بالكلمة، فإنّه هكذا يُعيد خَلق الإنسان من جديد بواسطة نفس الكلمة التي بها خلقَ الكون. فالمسيح يسوع هوَ الكلمة "الذي بِهِ كان كلُّ شيء" وبغيرِه لَم يكُن شيء مِمّا كان"(يو 1 / 3 ).

 

إن الإنسان عندما يتكلّم يُعبّر عن ذاتهِ، عن أفكاره، عن مشاعره... فنعرف الإنسان مِن كلامه ولكن بشكل محدود جداً بسبب محدوديّته.

إنّ كلمة الله هي تعبير عن ذات الله بشكلٍ تام وكامل لأنّه كامل ولا نقصَ فيه: إنّ الله يتكلّم بالإبن، فالإبن هوَ ملء وكمال حقيقة الله الآب. الله يتكلّم ويقول ذاته كاملة عبر الإبن.

 

إنّ جوهر ومحور الإيمان المسيحي هوَ سرّ التجسّد:

الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، أو سَكنَ بيننا وبتعبيرٍ كتابي "خَيّمَ" بيننا. كانت خيمة الإجتماع هيَ مكان سُكنى الله بين شعبه في العهد القديم. وقد أصبحَ يسوع كلمة الله مكان إقامة الله بين شعبه فيسوع هوَ حيث تلتقي الأرض بالسماء.

لقد نُفي الإسرائيليون إلى بابل ودُمّر الهيكل، مكانَ سُكنى الله سنة 587 ق.م.

وكان لذلك الدمار أثراً رهيباً عند الإسرائليين وصدمة عظيمة إذ كيف يمكن لله أن يُهزم ويُدمَّر مسكِنُهُ؟ وبعد 75 سنة من النفي عادوا إلى أورشليم وأُعيدَ بناء الهيكل دون تابوت العهد الذي فُقدَ وبقيَ اليهود يرزحون تحت الإحتلالات والعبوديّات دون مملكة حرّة. وقد أمضوا 500 سنة بعد ذلك دون أنبياء، بصمت مطبق من السماء، إلى أن ظهر يوحنا المعمدان في الصحراء "صوتُ صارخٍ في البريّة: أعِدّوا طريق الربّ" (مر 1 / 3). "توبوا لقد اقترب ملكوت الله". الملكوت يعني المَلِك، والمَلِك هوَ يسوع الذي أتى ليَحكم ويَملِك ولا يكون لمُلكِه إنقضاء. وأتى ليُجسّد حضور الله بين شعبه. ولكنّه "جاء إلى خاصّته وخاصّتهُ لم تعرفهُ وأمّا الذين قبلوه، فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله". وها هنا كلّ هدف التجسّد. صار الله إنساناً ليصيرَ الإنسان إلهاً. نزلَ من السماء إلى الأرض ليَرفع الأرض إلى السماء. أخذَ الطبيعة البشريّة ليُشرِكها بطبيعتهِ الإلهيّة.

 

فما سبب التجسّد عمليّاً؟ ألا يستطيع الإنسان أن يسعى إلى الكمال ويبلغهُ مِن تلقاء نفسه وبقوّته الطبيعيّة يرتقي إلى الألوهيّة أو الكمال؟ مُعظم الأديان، وخاصةً أديان الشرق الأقصى، تعتقد أنّ بإستطاعة الإنسان إذا مارسَ تمارينَ معيّنة ونمَط حياة معيّن، مع تقشّفات وسيطرة على الحواس والعواطف والأهواء، أن يبلغ مستوى من الكمال والوعي الكوني، بواسطة هذه الجهود الشخصيّة التي يبذلها.

 

 أمّا إيماننا المسيحي فهو مختلف تماماً. نحن نعرف أنّ في الكون مستويات من الخلق مختلفة ترتقي مِن الكيميائيّات الجامدة إلى النبات ثمّ إلى الحيوان ثمّ إلى الإنسان. فلا يستطيع أي مستوى أن يرتقي إلى المستوى الآخر من تلقاء نفسه، ولا أي طبيعة أن تتحوّل إلى طبيعة أعلى من تلقاء ذاتها.

 فالكيميائيّات الجامدة تبقى جامدة لا حياة فيها، إلّا إذا جذَبها النبات وأشركها بطبيعته النباتيّة، فتصبح الكيميائيات فيه ومنهُ، فتُزهر وتُثمر وتعطي حياة. تموت عن طبيعتها الجامدة وتتّحد بالطبيعة النباتيّة التي جذبتها إليها وأعطتها الحياة. كذلك الطبيعة النباتيّة لا تستطيع من تلقاء نفسها مهما فعلت أن تصبح طبيعة حيوانيّة تتحرّك وتنتقل ولها حواساً ترى وتسمع وتشم وتلمس وتأكل وتتذوّق.

ولكن الطبيعة الحيوانيّة تنزل وترفع الطبيعة النباتيّة إليها، وتُشركها في طبيعتها، فتُصبح منها وفيها تتحرّك وتعيش طبيعة أخرى. وكذلك الحيوان لا يستطيع بأي شكل أن يرتقي إلى الطبيعة البشريّة من تلقاء نفسه وبجهوده الذاتيّة، مهما فعل، إلّا إذا رفعهُ الإنسان وأشركهُ بطبيعته.

إذاً فمَسيرة الكون كما خلقها الله، هي أن كلّ طبيعة عُليا تجذب إليها الطبيعة الدُنيا وترفعها إليها وتُحوّلها إلى طبيعتها وتُشركها بها. وبنفس المنطق لا يستطيع الإنسان أن يرتقي إلى الكمال والألوهة مِن تلقاء نفسه وبجهوده الشخصيّة مهما فعل. فهوَ بحاجة لطبيعة إلهيّة تنزل إليه وترفعه إليها. مِن هنا كان تجسّد الله الإبن ونزوله إلى الإنسان مِن السماء ليَجذبهُ ويرفعهُ إليه لأنّه هوَ المملوء نعمة وحقّاً وهذه النعمة هي التي تحوّل الإنسان عندما يقبلها.

 

فالمسيح لم يأتِ ليَجعل منّا أناساً صالحين بل ليُغيّر طبيعتنا ويُشركنا بطبيعته. يُشبه ذلك كتحوّل حجر ليُزهر ويُثمر، أو نباتٍ ليتحرّك ويمتلك حواساً، أو حيوانٍ لينطق ويعقل... كذلك كتحوّل إنسان ليُصبح بطبيعة أخرى يَهبها لهُ الله بالنِعمة فيَجعلهُ إبناً له ومِن طبيعته.

جاء المسيح ليُخلّصنا من طبيعتنا الخاطئة الضعيفة ويُعطينا طبيعتهُ الكاملة الممجّدة البهيّة ويَجعلنا أبناء لله.

 

وهنا علينا أن نختار بين ممالك الأرض وملوكها وملكوت الله ومَلِكِه يسوع. لقد قصد لوقا الإنجيلي خلال سردِه لأحداث الميلاد أن يَذكر أُغسطس قيصر الإمبراطور الروماني، وكيرينيوس والي سوريا، وهيرودس ملك اليهوديّة الذين يمثلون ملوك وحكّام وسلاطين الأرض. فقد أمَرَ أغسطس قيصر "أن يكتتب جميع المسكونة" وأراد بذلك أن يُحصي عديد امبراطوريته من أجل الضريبة والخدمة العسكريّة، وهذا يُظهر سيطرته ونفوذه على العالم. ويُرينا في المقابل ملكاً طفلاً ضعيفاً لا قوّة ولا قدرة له على أي سيطرة.

أغسطس قيصر كان أيضاً الإنسان الأكثر حريّة على وجه الأرض يستطيع أن يفعل ما يريد ويتصرّف بما يشاء كما يشاء. وبالمُقابل يسوع كان طفلاً مقمّطاً لا يستطيع حتى تحريك يديه ورجليه وليست له أي حريّة ليَفعل أي شيء.

أُغسطس قيصر كان يستطيع أن يرضي جميع رغباته وشهواته كما يريد ويأكل ما يريد ويَشرب ما يريد ويتلذّذ بما يريد وبالمقابل يسوع في المعلف جعل نفسه هوَ طعاماً.

كان لأغسطس قيصر جيشاً عظيماً بواسطته يسيطر على كلّ المعمورة. ويُخبرنا لوقا في الإنجيل أنّه عند بشارة الملاك للرّعاة خافوا خوفاً عظيماً وقد بشّرهم قائلاً: "لا تخافوا... وُلدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلّص هوَ المسيح الربّ" (لو 2 / 11).  المسيح تعني الممسوح أي المَلِك. وقد ظهر بعدها جيش من الجُند السماوي يُسبّحون الله. وهذا هو جيش الطفل المَلِك الذي وُلِدَ في المِذود.

 

فما هوَ خيارنا نحن اليوم المؤمنين بملكوت الله، مملكة الربّ يسوع المسيح المُخلّص؟ أم مملكة قيصر؟

في عالمنا نَرغب جميعاً أن نكون مع قيصر: السّيطرة، القوّة، النفوذ، الحماية، الرفاهيّة، إشباع الرغبات... نتصرّف ونسلك ونعيش في ممالك قيصر والسلاطين والملوك لاهثين خلف المال، ساعين إلى اللذّة، خاضعين لسلطان العالم وجبروته. وبنفس الوقت نقف أمام مذود الطفل يسوع حائرين راغبين أن نكون معه أبناءً لله، ملوكاً في مملكته ولكن عاجزين عن إتّباع روحانيّته.

 

عندما نتأمّل المذود نَرى الفقر والعفّة والطهارة والوداعة والطاعة في الطفل الذي يدعونا إلى ملكوته حيث المحبّة وبذل الذّات والتضحية، ويضعنا أمام خيار واحد مِن إثنين: إمّا أن نقبله مَلِكاً على حياتنا ونتبعهُ ونَقتدي به سالكين بروحانيّة المذود، وإمّا أن نتبع سلاطين هذا العالم وممالكهم، سالكين بالكبرياء والأنانيّة وإشباع الذات البشريّة الفانية. فعلينا أن نقرّر مع أي مَلِك نحن وفي أيّ جيش؟ مع قيصر أو مع طفل المذود؟ وعلينا أن نسلك ونعيش بحسب خيارنا بصدقٍ وأمانة.

 

فزمن الميلاد إذاً هو زمن التأمّل بسرّ التجسّد العظيم والإنحناء أمام عظمة محبّة الله لنا والسجود أمام مذود الملك المُخلّص وتجديد العهد بخيار المذود فنعيش بحسب وصايا الله وكلمته المقدّسة ونكون أقوياء بهِ وأحراراً بروحِه متواضعين وودعاء بقلوبنا مثل قلبه، مقدّمين أنفسنا طعاماً خبزاً طيّباً، متّحدين مع الربّ يسوع، فخيارنا هو مملكة المذود على ممالك الأرض كلّها.

 

صلاة:

يا ربّ لقد كشفتَ لنا أبعاد الإنسان، ذلك المخلوق الذي جبلته على صورتك ومثالكَ. نطلب إليكَ أن تُرسل علينا روحكَ القدّوس الذي رفَّ على وجه المياه في بداية الخليقة فجعلها خصيبة، والذي باركَ سارة وجعلها تحمل وتلد إسحق بعد أن كانت عاقراً، والذي حلّ على العذراء مريم وجعلها والدة المسيح. هذا الروح بعينه فليحلَّ علينا اليوم أفراداً وأزواجاً، ويخلق في قلوبنا هذا الإنسان الجديد، هذا المخلوق الذي ينتظر أن يولد فينا، ولْنُرَدّد مع العذراء مريم: "ها أنا أمةُ الربّ، فليكُن لي بحسب قولِكَ...". فالكلمة يصير بشراً، ويَحلّ فينا، كما حلّ في أحشاء العذراء الطاهرة، ونصبح نحن أيضاً قادرين على أن يولد المسيح في قلوبنا.

(الأب هنري بولاد اليسوعي، من كتاب نحو حياة أفضل).

الفيديو على الرابط التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=0rgTirZxifY