"مأدبة" - الأب مارون مبارك (مرسل لبناني)

لقد اعتدنا اللقاء كل نهاية سنة، الجمعة الأخيرة من الشهر الأخير في السنة حتى نتشارك بالكلمة والذبيحة. ورأيت، كما ألهمني الروح، أن نجعل من هذه اللقاءات مسيرة روحية معبّرة تنهض بمسلكنا، نحن الذين ننتمي إلى روحانية "عيلة مار شربل".

لقد بدأنا سنة الألفين بموضوع "العبور" وتأملنا فيه كيف نبرز هويتنا حتى نسلك إلى المقطع الآخر. ثم سنة الألفين وواحد توقفنا عند موضوع "التجذّر" فاستوقفنا عند الانتماء القوي ليسوع وكنيسته حتى نتابع مسيرة الألف الجديد وهي طويلة وصعبة وتتطلب هذا التمسك العميق بالجذور. بعدها في سنة الألفين واثنين تطرقنا إلى موضوع "التتلمذ" وهو متابعة هذا التجذّر إذ بدخولنا في مدرسة يسوع والتدرّج في مستويات الكلمة فيها يقوي فينا عملية التجذّر لمتابعة مسيرة الشهادة في الألفية الثالثة. والسنة المنصرفة ألفين وثلاث أخذنا موضوع "الشهادة" الذي فيه حملنا الكلمة بالفعل والقول حتى تأخذ الألفية الثالثة مجرى مسيرتها الصحيح لتصل إلى بغيتها وتسلّم الأمانة للألفية الرابعة. اليوم في سنة الألفين والأربع أود أَن أكمل المشوار بموضوع "المائدة أو المأدبة" التي تغذي فينا كل الطاقات التي تحدثنا عنها عبر السنوات، فهي غذاء العبور إلى الأفضل والمستقبل، وهي قوة للتجذّر ومادة التتلمذ ودافقة الشهادة.

إننا وان كنّا بليلة رأس السنة التي فيها نستقبل العام الجديد 2005، لكنَّ الأجواء الميلادية وبهاء سرّ التجسد لا يزال يلقي علينا أنواره. لقد عيّدنا هذه السنة الميلاد بأجواء قربانية. والقرابة بين الميلاد والقربان أو الافخارستيا متينة. أراد قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني أن نعيّد الميلاد بالمعنى القرباني بحيث أعلن بين تشرين الأول 2004 وتشرين الأول 2005 "السنة القربانية أو سنة الافخارستيا".

فالميلاد هو عيد "التجسد"، أي أن الرب أخذ جسد الإنسان وصار حاضراً بيننا ومعنا بشكل مرئي ملموس: "الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، وأبصرنا مجده مجد وحيد من الآب"، يقول القديس يوحنا الرسول في مقدمة إنجيله. أما في عشائه الأخير مع تلاميذه، فأخذ يسوع الخبز والخمر علامة لحضوره الدائم بيننا ومعنا حتى يعيش معنا الشركة وحتى يجعلنا نعيش الشركة بعضنا مع بعض؛ فإلهنا معنا أي "العمانوئيل"، يبقى دائماً معنا، انه في "سرّ الجسد" أي سرّ القربان. لذا نحن اليوم نقف لنتأمل بالمأدبة، إنها المأدبة الإلهية وهي تقام على ثلاث موائد أو ثلاث خشبات:

1- المائدة الأولى: هي المزود، ومنه جاءت عبارة مغارة بالأجنبية Crèche. إنه المائدة الأولى التي نجد فيها عطية السماء للأرض، الهدية الكبرى، أن ينزل الرب وينحدر نحو الإنسان ويصبح مثل الإنسان إنساناً حتى يمكّن الإنسان من التعرّف عليه. لقد تمدّد الرب الإله على مائدة المغارة في مزود ليعيش القرب من الإنسان...

ليعيش القرب من الإنسان وليعلّم الإنسان على عطية الحياة. وكلنا اعتدنا القول أنه في عيد الميلاد نفكر بالتجدّد، الحياة الجديدة، والطفل هو الذي يرمز إليها، أي أنه يحمل الحياة ليس بالنظر إلى الوراء بل بالتطلع إلى الأمام. إذاً نتعرف على:

- الحياة عطية من الله، ماذا نفعل بهذه العطية.

- الحياة ليست نظرة إلى الوراء بل تطلع إلى الأمام، لأن مسيرتنا مع الله هي من بداية إلى بداية وليس هنالك من نهاية فقط. لذا نفهم بعيد الميلاد معنى الرجاء --> الرجاء الصالح لبني المسرّة. نحن اليوم في هذا العيد نتعلم الرجاء في حياتنا؛ وهذا ما تدل عليه قصة الشمعات الأربع.

2- المائدة الثانية: هي مائدة العشاء الأخير الذي قضاه يسوع مع تلاميذه ويأتي هذا العشاء استكمالاً للمشروع الإلهي في قربه من الإنسان حتى يتعلم الإنسان التقرب منه والتشبه به. جاء ليدلنا على طريق الملكوت وباب الملكوت ومسكن الملكوت، لذلك شبهه بأمور عديدة. هنا على مائدة العشاء القرباني نفهم أموراً عديدة:

أ- لا يمكننا اجتزاء هذا العشاء من العمل الخلاصي ككل، بل هو حلقة في سلسلة متكاملة من الأحداث لأجل خلاص الإنسان، أي محو الخطية وانتصار نعمة الحياة الباقية. منع كل ما يقتل فينا الحياة حتى تستمر الحياة حيث لا نهاية لها. فنلاحظ في حدث هذا العشاء أبعاداً متعددة.

- بُعد تبشيري تعليمي: طرح مرقس سؤالاً "من هو يسوع؟"، ويسرد إنجيله حتى يعلمنا من هو، وماذا يصنع لأجلنا. لذلك يخبر ويعلّم.

- بُعد دفاعي: خلال السرد يستشهد بالمزامير 22 و66 وهي صلوات في العهد القديم لتدل على تقوية الإيمان خلال حالات الضعف. فالطابع الديني لأحداث الآلام يعطيها دفعاً روحياً ودفاعاً لتقوية الإيمان.

- بُعد ليتورجي: الحركات والكلمات على العشاء كلها تدل على تنظيم للصلاة والشركة. وأيضاً عندما صلّى لوحده عرق دماً في البستان وهي قوة الصلاة والمعاناة الشخصية والقدرة الداخلية عند الإنسان.

- بُعد جغرافي: الأماكن وتسلسلها (البستان حيث صلى – العشاء في العلية – عند بيلاطس والقصور الملكية – الجلجلة – القبر في البستان. كلّها أماكن دارت فيها الأحداث ولها مدلولاتها بين أهل البيت والغرباء في الأرض كما في القصور، كلها تشهد لعملية الفداء.

- بُعد الزمن: تعدد الساعات منذ الصباح حتى صباح القيامة، بحيث: عند الصباح سُلّم إلى بيلاطس، عند التاسعة الصلب، عند الظهر الظلام، عند الثالثة لفظ أنفاسه، عند صباح جديد القبر الفارغ. لقد ملأ نهاراً كاملاً ليقدس الزمن. هذا في الإطار الواسع حول العشاء. أما في الإطار الضّيق فإننا نجد الأمور:

- مؤامرة عظماء الكهنة واليهود.

- العشاء وخيانة يهوذا.

- بعد العشاء إنكار بطرس وهرب الرسل.

=> في وسط كل هذا يسوع يتابع عمله الخلاصي. انه الأمين للآب ولمشروعه. إذاً "أمانه يسوع" في قلب الصعاب.

والى جانب هذه الأمانة نجد يسوع يعطي تلاميذه موعداً إنه لن يأكل ولن يشرب من الخمر والخبز إلاّ في الملكوت. وهذا أيضاً ما يعطي النبوة. يسوع الأمين ويسوع النبي. لذا نفهم من خلال مائدة الخبز:

1"- الأمانة: القربان يعلمنا الأمانة لإرادة الله علينا. حين قال اصنعوا هذا لذكري. فهو يعلّم انه باجتماعنا حول خبزه السماوي نحن نعيد حضوره. فالخبز قسم على اثني عشر ثم عاد فالتحم من خلالهم ليكون خبزاً كبيراً ← جسداً سرياً وهو الجماعة.

2"- النبوة: أي إننا نأخذ إلى جانب قيمة الحياة والحفاظ عليها (المغارة)، تغذية الحياة لتشهد على صدق محبة الله. فمن خلال حياتنا نعطي صورة عن الملكوت.

فإذا أردنا التوسع أكثر بهذا المعنى نقول: كما أن يسوع جسّد في المغارة محبة الله فتشبه بالإنسان وأخذ جسده؛ كذلك نحن على مائدة الخبز الإلهي نجسّد باجتماعنا محبة الله فنشبّه بجسده عندما نحيا إخوة مؤتلفين تحت رايته، نكون نحن الجسد وهو الرأس لهذا الجسد، منه نستمد الحياة ومنه نأخذ التفاعل مع الحياة.

3" - الغذاء: من مائدة المذبح تتغذى الحياة وتتقوى. هذا ما تعلمنا إياه مائدة القربان. فمن ذكرى العبور في العهد القديم إلى العبور الجديد نحو حياة جديدة ملؤها قوة الله والشركة والشهادة الدائمة. هذا ما تقوله قصة الكاهن الذي صلّى في نهاية قداسه إنه سيكمله في حياته، فنجسّد الأمانة والنبوة والغذاء.

3- المائدة الثالثة: هي خشبة الصليب، هنالك تمدد ابن الله ليعطي حياته، ليجعلها "قرباناً". قرّب نفسه منا في المغارة حيث وجدنا المائدة الأولى، ثم عاد فقرّب نفسه أكثر من خلال الخبز والخمر

على مائدة العشاء الأخير. بالأول سميناه وأراد هو أيضاً نفسه أن يكون "إلهنا معنا". ولكن بالحدث الثاني أراد الأكثر، إذ انه على سؤال تلميذي عماوس "ابقى معنا" أعطاهما جواباً بأن يبقى "فيهما"؛ وهذا هو معنى حضور الرب ← من "إلهنا معنا" في الميلاد إلى إلهنا فينا في القربان. أما هنا على الصليب فإنه يذهب إلى الأبعد، إلى بذل الذات في سبيل من يحبّ. لقد حوّل كل الإرهاب الذي مارسه عليه اليهود وكل من يشترك معهم في آلامه إلى تقدمة حبّ. حوّل الذبيحة إلى تقدمة، إلى قربان؛ وكل هذا بفعل الحبّ الكبير. قرّب هذا الإرهاب إلى الآب عندما قال "إغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"، فالمغفرة حبّ يحوّل الإنسان ويبدّله من متوحش إلى عالق بالحقيقة فيغيّر مسلكه. وقرّب هذا الإرهاب إلى الناس أجمعين حين قال "ستكون معي في الفردوس اليوم"، فالغفران يعيد المعنى لحياة الإنسان ويعطيها الرجاء ليس بالربح بل بالعطاء الذاتي. لذلك كان يعلّم من أراد أن يربح نفسه يهلكها أي يقدّم مما عنده حتى يأخذ ممّا عند الرب وهذا هو معنى التوبة.

من مائدة الصليب حيث تمدّد يسوع كما في المغارة نفهم:

1"- الحب الكبير: ليس العادي، فهنالك في اللغة الأرامية والعبرية والعربية فعل واحد "أحبّ"، ولكن يتميز هذا الفعل باليونانية بأربعة أفعال:

-Stergein --> حب العاطفة العائلية.

- Ergān --> الحب الممزوج بالرغبة.

- Filein --> الحب المجرد الفلسفي.

- Agapān --> الحب الذي فيه عطاء.

ولا نخف من العطاء لأنه يغني لا يخسّر؛ نفرح بالعطاء لأن غيرنا يربح ويستفيد ونحن نربح إننا نتحرر ونجد السعادة. تماماً كما تقول قصة الطفل في غانا.

2"- الغفران: تقول الترتيلة "عندما أقبّل رفيقي دون غش أكون في الميلاد". "عندما تموت فيّ روح الانتقام، عندما يُرمّد في قلبي الجفاء، أكون في الميلاد". ليس الغفران عملاً عادياً بل إنه فائق العادة يتطلب شحن المحبة إلى أقصى درجاتها. لأنه في الغفران لا ينظر المرء إلا إلى تعاسة الخاطئ دون التفكير بذاته إلا من ناحية رسالته ودوره في الغفران. لا يكون الغفران إبن ساعته بل هو نتيجة مسيرة روحية قوية متواصلة، لأننا نغفر بقدر ما نكون مملوئين من الله.

3"- التوبة: إنها معرفة الذات على ضوء محبة الله الكبرى. عندما اكتشف اللص نقاوة يسوع ومحبته، عرف كم هو بعيد عنه وطلب منه القرب. هكذا نحن عندما نلمس مشوار يسوع في المآدب الثلاث وعلى الموائد الثلاث نجد ذواتنا بحاجة أن نقترب منه أكثر وأن نبتعد عن مسلكنا العادي والبعيد عنه فنعيش التوبة.

لذلك بهذا العيد نحن مدعوون إلى:

- معرفة قيمة حياتنا إنها عطية من الله.

- الأمانة لهذه العطية وصونها.

- النبوة في السعي إلى عيش وعود الرب لنا.

- العطاء النابع من الحب الكبير.

- الغفران الذي يترجم قوة المحبة فينا.

- التوبة التي بها نسعى إلى القرب من الرب الدائم.

هكذا نحن نكون في الميلاد -> نعم نقول إن هذا لصعب وليتطلب منا الكثير. فأقول أيضاً نعم إن الوقت معنا لأن المسيرة هي إلى الأمام وليس إلى الوراء. هو الوقت الذي نعرف أن نفيد منه يعلمنا كيف نحقق مشروع الرب ومخططه المثلث. هذا تعلمنا إياه قصة الأحاسيس والشعور على الجزيرة وكيف أن الوقت وحده يعلم كم هو الحبّ ضروري للحياة. لذلك في الميلاد دخل الرب بحبه في الوقت حتى يقدس لنا الوقت. لذا نحن مدعوون في الميلاد إلى مأدبة فلا نضيع الوقت.

آمين.

تعليم - الجمعة 31 كانون الأول 2004 - عنايا