الركــوع

لم يكن الوثنيّون يركعون إلاّ في أثناء عبادتهم لآلهة جهنّم.

أمّا المسيحيّة التي انتشرت أولاً بين الوثنيّين، حيث كان من عادة العبيد والخدم أن يركعوا، فعبّرت عن حرّيتها بالوقوف أثناء الصلاة. لكنّ الركوع يتناسب أيضاً مع الصلاة. عندما نحني ركابنا نقترب بجسمنا إلى الأرض، التي أُخِذْنا منها، فتَصغُر قامتُنا، وتدلُّ من باب الرمزيّة، على انحدار النعمة، وقبول الروح، واستعدادنا الروحي، وعلى التواضع أمام الله؛ الأمر الذي يُشكِّل أكبر ضمانة لاستجابة صلواتنا، بحسب قول القدّيس يعقوب في رسالته 4 : 10، "تواضعوا بين يَدَي ربّكم فَيَرْفَعَكم".

لكنّ الركوع على أنواع:

فهناك الانحناء أو نكس الرأس وطيّ الصدر والركوع. وبهذا الشكل صلّى يسوع في بستان الزيتون، بحسب إنجيل القديس متّى: "ثمّ ابتعد قليلاً وسقط على وجهه يصلّي فيقول: "يا أبتِ، إن أمكن الأمر، فلتبتعد عنّي هذه الكأس" (متّى 26 : 39).

ويُفْهم به الجثوّ على الركبتين معاً. ولنا دلالة على ذلك ما قام به القدّيس بولس الذي، في أثناء مروره في مدينة صور، وإقامته فيها سبعة أيّام، بالاستناد إلى ما ورد عنه في كتاب أعمال الرسل 21 : 1 – 7، صلّى مع الجماعة المسيحيّة فيها جاثياً: "... فوصلنا إلى صور، لأنّ السفينة تُفرغُ فيها حمولتها. ووجدنا التلاميذ هناك، فأقمنا سبعة أيّام. وكانوا يسألون بولس بوحيٍ من الروح ألاّ يصعدَ إلى أورشليم. ومع ذلك، فلّما قضينا تلك الأيّام، خرجنا نريد الرحيل. فشيّعنا جميع التلاميذ مع النساء والأولاد إلى خارج المدينة، فجثونا على الشاطئ وصلّينا. ثمّ ودّع بعضنا بعضاً، فركبنا السفينة، وعادوا هم إلى بيوتهم. أمّا نحن فلمّا أنهينا رحلتنا من صور وصلنا إلى بطلمايس..."

والتصغُّر، وهو أنْ تلتصق الركب والرأس بالأرض، ويسمّى المطانيّة، وهي كلمة يونانيّة (Métanoia)تعبِّر عن السقوط في الخطيئة والرغبة في التفكير عنها.

والعادتان كانتا معروفتين ويمارسهما كلٌّ من اليهود والوثنيِّين. وقد جرى عليهما المسيحيُّون الأوّلون. لكنّ الكنيسة لا تسمح بالركوع في أيّام الفصح، وفي الآحاد، وفي الأعياد السيِّديّة. ويُظَنُّ أنَّ هذه العادة انتشرت منذ عهد الرسل؛ ويذكرها ترتوليانوس في القرن الثاني، وقد قرَّرها المجمع النيقاوي الأوّل كنظام عام بين المسيحيّين، في القرن الرابع. وتأمر الكنيسة بالركوع في أيّام الصوم والقطاعة وفي الصلاة أمام القربان المقدّس المعروض للزيّاح.

وكان الغربيّون، في القديم، مثل الشرقيّين، يكتفون بالانحناءات (انحناء الرأس أو انحناء القامة)، وفي كلّها معنى الاحترام والوقار لمَنْ تُصنَع له.

ودرج بعض النسّاك الموارنة على اعتماد "المطانيّة" في وادي قاديشا. يأتي البطريرك إسطفان الدويهي خصوصاً على ذكر يونان المتريتي الذي كان لا يملُّ من صنع المطانيّات. وقد بلغ به الأمر إلى القيام بأكثر من ثلاثين ألف مطانيّة، يوميّاً.

المرجع: الرموز المسيحيّة للخوري ناصر الجميّل