سرّ المعمـوديـّة - للأب مارون مبارك

 "سرّ المعمـوديـّة"
للأب مارون مبارك – مرسل لبناني ماروني
لقاء الأربعاء الأول من شهر كانون الثاني2001
عيلة مار شربل - كنيسة مار شربل أدونيس

(ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو أقرب الى اللغة المحكيّة).

بإسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد آمين

قراءة من إنجيل يوحنا الفصل 3 من الآية 1 إلى 12.
"وكان في الفرّيسييّن رجلٌ اسمه نيقوديموس، وكان من رؤساء اليهود. فجاء إلى يسوع ليلاً وقال له: "رابّي، نحن نعلم أنّك جئت من لَدُنَ الله معلّماً، فما من أحد يستطيع أن يأتي بتلك الآيات التي تأتي بها أنتَ إلاّ إذا كان الله معه". فأجابه يسوع: "الحقَّ الحقَّ أقول لكَ: ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلاّ إذا وُلد من عَلُ". قال له نيقوديموس: "كيف يُمكِنُ الإنسان أن يولد وهوَ شيخٌ كبير؟ أيستطيع أن يعود إلى بطن أمّه ويولد؟" أجاب يسوع: "الحقّ الحقّ أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله الاّ إذا وُلدَ منَ الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسداً ومولودُ الروح يكونُ روحاً. لا تعجب من قولي لكَ: يجب عليكم أن تولدوا من عَلُ. فالريحُ تهُبّ حيث تشاء فتسمعُ صوتها ولكنّكَ لا تدري من أينَ تأتي وإلى أينَ تذهب. تلكَ حالةُ كلُّ مولود للرّوح". أجابه نيقوديموس: "كيف يكون هذا؟" أجاب يسوع: "أأنتَ معلّمٌ في إسرائيل وتجهل هذه الأشياء؟
"الحقّ الحقّ أقول لكَ: إننّا نتكلّم بما نعلم، ونشهد بما رأينا ولكنّكم لا تقبلون شهادتنا. فإذا كنتم لا تؤمنون عندما أكلّمكم في أمور الأرض فكيف تؤمنون إذا كلمتكم في أمور السماء؟
**********
مقدّمة:
- موضوع اليوم هو المعموديّة بشكل حصري في مفهومه اللاهوتي وبعده الرعوي.
- سوف نطرح هذا الموضوع (سرّ العماد)، إنطلاقاً من الأسئلة التالية:
1- ما هو معنى لفظة عماد؟
إن لفظة "عماد" باللغة اليونانية معناها "التغطيس والغسيل والتبليل". إن المعنى الحرفي للفظة "عماد" في الكتاب المقدّس هي التغسيل، مثلما يشرح كتاب يهوديت12/ 7 عندما ذهبت لملاقاة أليفانا رئيس جيش الأشوريين: "فأوصى أليفانا حرّاسه بعدم التصدّي لها. وبقيت في المعسكر ثلاثة أيام. وكانت تخرج ليلاً إلى وادي بيت فلوى وتغتسل في المعسكر في عين الماء". أحياناً يراد بها التغسيلات الطقسيّة والناموسيّة عند اليهود كما يذكر مرقس 7/ 3-4 "أن الفريسيين واليهود عامة لا يأكلون إلاّ بعد أن يغسلوا أيديهم حتى المرفق تمسكاً بسنّة الشيوخ. وإذا رجعوا من السوق، لا يأكلون إلاّ بعد أن يغتسلوا بإتقان. وهناك اشياء أخرى كثيرة من السنّة يتمسكون بها، كغسل الكؤوس والجرار وآنية النحاس. وقد وردت لفظة عماد في الكتاب المقدّس بالمعنى المجازي ويراد بها اولاً الحزن العظيم كما يقول لوقا في الفصل 12 الآية 50 "وعليَّ أن أقبل معموديّة، وما اشدّ ضيقي حتى تتم" وهذا للدلالة على الآلام والفداء. كما بالمعنى المجازي، يراد القول بلفظة العماد فيضان النعمة بغزارة على حدّ قول كتاب أعمال الرسل 1/ 5 "ذلك بأن يوحنا قد عمّد بالماء، وأما انتم فسوف تُعمّدون بالروح القدس بعد أيام غير كثيرة".
أما الآباء الروحيون فأنهم يذكرون كلمة "عماد" بمعنى سرّ العماد الحقيقي، وأحياناً كثيرة يرمزون بها إلى المعنى المجازي أي عماد الدم كالإستشهاد والتوبة التي يسمونها العماد الثاني؛ أو عماد الشوق القائم بالندامة الكاملة والمحبة الكاملة.
أما مفهوم العماد فما هو؟
انّه عمل غطس الإنسان في حدث الخلاص، الغطس في يسوع، لأن الخلاص الشامل هو في يسوع المسيح المائت والقائم من الموت. وبقيامته أصبح الرب، وهو مركز الكون كلّه، الحي بالنسبة الى ما قبله وما بعده، منذ آدم حتى إنتهاء العالم. يقول بولس الرسول في 1 كورنتس 10/ 1-4: "لا أريد أن تجهلوا، أيها الأخوة، أنّ آباءنا كانوا جميعهم تحت حماية الغمام وجميعهم عبروا البحر، وجميعهم تعمّدوا لموسى في الغمام وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً روحياً واحداً، وجميعهم كانوا يشربون شراباً روحياً واحداً من صخرة روحيّة ترافقهم وهذه الصخرة هي المسيح". إذا لقد مات المسيح لأجل جميع الناس وقام لأجلهم جميعاً. وهؤلاء الشعب، لقد تعمّدوا جميعاً في البحر والغمام اي من الروح والماء، كما انهم اكلوا جميعاً طعاماً روحياً وشربوا شراباً روحياً هو يسوع في القربان. اذاً لقد عاشوا منذ البداية هذه الحقائق من خلال تلك الأمور.

2- ما هي الرموز التي وردت في الكتاب المقدّس للدلالة على سرّ العماد؟
1- الختان عند موسى
2- سفينة نوح التي ارتفعت فوق المياه وخلصت نوح وعائلته من الطوفان (1بطرس 3/ 20-21) فأن العماد ينجّينا من طوفان خطايانا.
3- إجتياز البحر الأحمر إذ خلُص العبرانيون من انتقام فرعون. (1كورنتس 10/ 1-2) هكذا العماد يخلصنا من نقمة ابليس.
4- الماء الذي خرج من الصخرة بأمر موسى (ا كورنتس 10/4 )
5- غسل نعمان السرياني في نهر الأردن فتخلّص من البرص (4ملوك 5/ 14) فأننا بماء العماد نتطهر من خطايانا.
6- بركة بيت حسدا التي كان يشفى اول من كان يلقي فيها نفسه بعد تحريك مائها من الملاك. (يو 5/ 2).
7- التفسيرات المختلفة التي كانت واسطة لإرجاع القداسة الناموسيّة (أحبار 14/ 7 والعدد 31/ 21-24). وكان الأنبياء يحرّضون على هذه التغسيلات لأنها رمز للقداسة الباطنية (أشعيا 1/ 16؛ حزقيال 36/ 24-30). لا بل أن الدخلاء في الدين اليهودي عندما كانوا يريدون أن يشتركوا بانعامات اليهود، ليس فقط كانوا يُختنون، بل كانوا يعمّدون أيضاً، أي يغتسلون بالتغسيلات الطقسيّة.
ولقد سمّيَ "العماد" في الكتاب المقدّس:
- غسل المياه (أفسس 5/ 26)، الموجة المولدة والنهر الحيّ.
- غسل الميلاد الثاني أو غسل التجديد (تيطس 3/5)
- غسل الخطايا (أعمال الرسل 22/ 16)
- دفن الإنسان مع المسيح (روما 6/ 4)
- ختان غير مصنوع بالأيدي (كولوسي 2/ 11)
- التنوير أي إنارة (عبرانيين 6/ 4).

3 - أنواع العمــاد.
في الواقع لا يوجد إلاّ معموديّة واحدة كما يقول مار بولس في رسالته إلى أفسس4/5 "هناك ربّ واحد وإيمان واحد ومعموديّة واحدة". ولكننا نميّز بين ثلاثة أنواع من هذه المعموديّة، إنها ثلاث صيغ للمعموديّة الواحدة.
- معموديّة الماء: وهي المعموديّة العاديّة، العماد الطقسي والرسمي.
- معموديّة الشوق: وهي معموديّة الصدق، هذا العماد لا يتطلّب ايّة معرفة واضحة بيسوع المسيح أو بالكنيسة أو بعماد الماء. أنه عماد الروح الذي يهبّ حيث يشاء ويوحي للإنسان أن يبدأ بعيش إرادة طيبة. إنّه يخص كل الذين لا يرفضون ما يعطيهم الربّ من أنوار. إذاً عماد الشوق هو غير الشوق للعماد، لأن البشريّة التي لم يصلها الإنجيل لا تعرف العماد. ولكن يغطس جميع هؤلاء الناس في حدث الخلاص، اي لكي يتعمّدوا بالشوق يكفيهم الضمير، أي أن يعيشوا بحسب الهامات الربّ في ضميرهم.
- معموديّة الدمّ: أي الإستشهاد. هذه هي المعموديّة "المسيحيّة" التي عاشها المسيح في آلامه "عليَّ أن أقبل معموديّة الآلام وما أضيق صدري حتى تتم" (لوقا 12/50). هو انموذج العماد إذ هو قيمة الحب وشهادة الإيمان. "اغتسل بدمه" يعني أعطى حياته.

4 - مفاعيـل العمـاد.
إنها ثلاثة بالعموم.
أولاً- الدخول في عيلة الله: أي الإتحاد بالمسيح الذي يُدخلنا في عيلة الثالوث.
بالعماد يصبح الإنسان واحداً مع الإبن المصلوب والقائم من الموت: يصبح عضواً للمسيح.
يقبل الروح البنوي الذي به يصبح ابناً لله، حسب قول بولس "عند تمام الأزمنة أرسل الله أبنه مولود من إمرأة لكي نصبح نحن أبناء الله. فانتم إذاً أبناء: أرسل الله إلى قلوبكم روح إبنه الذي يصرخ: "أبّا – أيها الآب! فلم تعد إذاً عبداً بل إبناً. ولأنّك إبن، فأنت أيضاً وارث: وهذا من عمل الله..." (غلاطية 4/4 ).
الروح القدس يشرك المعمّد في كهنوت المسيح الملكي والبنوي. أي يجعله شبيهاً بالمسيح، وهذا هو طابع العماد الذي لا يُمحى.
هكذا وبإختصار: إندمج المعمّد الجديد بالإبن، في شراكة الأقانيم الإلهيّة الثلاثة.

ثانيًا- الدخول في عيلة الله: أي في جماعة يسوع، الكنيسة. جماعة المعمّدين الذين يؤلفون وحدة جديدة من بعد أن تعمّدوا كلهم "بإسم الآب والإبن والروح القدس". إذاً أنّه الدخول في الكنيسة، حجراً في بناء جسد المسيح السرّي. عضواً جديداً فيه. لقد جاء يسوع المخلّص لكي يقتل العداوة ولكي يصالح العالم "ليجمع أبناء الله المشتتين". فالخلاص إذاً هو أن نبني الوحدة، وحدة الروح القدس، بين أفراد البشريّة كما هي بين الأقانيم الإلهيّة. والعماد هو أساساً هذا الإنضمام إلى عائلة الله، إلى الوحدة المسيحيّة. يقول مار بولس "إننا تعمّدنا في روح واحد لكي نؤلّف جسداً واحداً" (اكورنتس12/ 13). والقديس يوحنا الرسول يعطي صورة ثابته وهي ان العماد يُطَعّمنا على المسيح لكي نؤلف معه ومع بعضنا بعضاً الكرمة الواحدة ذات الأغصان العديدة. إذاً يبرّرنا الله من الخطيئة حتى يجعلنا نعيش الوحدة، "نعيش مع"، "المعيّة".
ثالثًا _ الإشتراك في رسالة الكنيسة: أي أن نكون من الفعالين في امتداد رسالة يسوع الخلاصيّة. نحن لا نؤمن فقط بما تعلّم الكنيسة إنما ندافع عنه وأيضاً نعمل على نشره لأنّه يسعف النفوس في خلاصها. انها "مملكة التطويبات" حيث يسعد الفقراء والودعاء والأنقياء وصانعو السلام. وهذه تختلف عن ممالك العالم حيث يسود احترام الأغنياء والأقوياء، يجب أن ننتقل إلى حياة غير شكل.

5- الإستعـداد للعمـاد؟
1- إستعداد فردي بالتوبة وهي تجديد للعماد.
2- القراءة للتعرّف على كلام الله.
3- الصلاة الجماعيّة لخلق المناخ الملائم للمناسبة.
4- تحضير الرتبة وفهم اقسامها وأهم محتوياتها.
5- تعلّم رموز العماد: المياة وجرن المعموديّة، الزيت والميرون.
6- جماعات تحضير العماد من علمانيين يقرأون ويتثقفون حول الموضوع.
7- الإحتفالات الخارجيّة تكون من بعد الإحتفال الأساسي للتعبير عنه.
8- خلق رموز للدلالة على التجدّد على حضور الروح، على الإشتراك بحياة الكنيسة (ديكور، الزينة، الهدايا...).

6- خصـائـص العمـاد المسيحـي.
أ - التوبة إلى يسوع في الإيمان – التوبة في يسوع في حياة جديدة، انها عمليّة العبور من الموت إلى الحياة، لا فقط ندخل في لائحة إنّما في حياة القائمين من الموت.
ب- فعل يسوع الحاضر الخفي: لم يعد يوحنا هو الذي يعمّد لمغفرة الخطايا بل هو يسوع الذي يعمّد لكي يعطي الروح وليعطي حياة القائم من الموت.
ت- العماد يتم بالروح القدس – المعمّد قد تغطّس في الحدث الأساسي الذي هو فصح يسوع: موته وقيامته وعودته إلى أبيه في السماء من حيث سوف يرسل الروح القدس.
ث- هناك كلمة وهناك رمز، إذا جمعناهما يصبح معنى الرمز حاضراً.
ج - وأخيراً ينضمّ المعمّد إلى الشعب الجديد الذي بدأ يوم العنصرة.
ح - معاني المياه التي هي رمز اساسي في المعموديّة.

7- تاريخ العماد بالماء:
العماد هو وريث تاريخ شعب الله كلّه وتاريخ الخلاص كلّه. ماء عمادنا هو ماء الخلق. هو غنيّ بكل الأحداث الرمزيّة التي مرّ بها في حقبات الكتاب المقدّس المتعاقبة. وهو يحمل لنا معناها وقوّتها. وطقوسنا مليئة بذلك.
- ماء أجران عمادنا
- هو – الماء – الأم للخليقة الأولى حيث كان يرفّ روح الله ذاته لكي ينعشه. الماء والروح مذّاك.
- هو ماء الطوفان الذي يغرق خطئية عالم يجب أن يتطهّر وان يخلّص في الوقت عينه البشريّة الجديدة.
- هو ماء الينبوع المنبجس في عدن لكي يسقي الفردوس الأرضي ويُخصب الأرض في اقطارها الأربعة.
- هو الماء المميت الذي ابتلع فرعون وجيشه، الرامز إلى قوى الشرّ– والماء المحيي الذي يفتح للشعب المبارك "العبور" – الفصح – نحو الحياة والحريّة: موت وحياة، صليب وقيامة.
- هو الماء الحيّ النابع من الصخرة لكي يمنع الشعب من الموت عطشاً في الصحراء، "وهذه الصخرة هي المسيح".
- هو ماء الأردن والمرور به يقود إلى أرض الميعاد.
- هو أيضاً ماء الأردن حيث نزل المخلّص لينقل إلى كل مياه العالم عطر الوهيته: ماء السماء المفتوحة فوق رأس المسيح المعمّد، ماء محبّة الآب الذي سوف يصرخ من الآن فصاعداً فوق كل أجران العماد: "هذا هو أبني الحبيب، به وضعت سروري"، بينما الروح القدس يحلّ فيه، نفحة المياه الأولى والخليقة الجديدة.
- وهو أخيراً الماء الخارج من جنب المصلوب المطعون، يوم عماد يسوع والعالم، بدمه. من هنا تفجّرَ ينبوع كلّ الأسرار ولا سيّما السرّين الأساسيين: العماد والأفخارستيا.
يقول رتزنغر: التعزيم الأساسي هو التغطيس في عنصر الموت. ها نحن هنا أخيراً مع "مادة" السر. الماء هو رمز الموت: في الكتاب المقدّس، البحر هو مسكن لأوتيان، عدوّ الله. أنّه يعبّر عن الفوضى، عن عداوة الله وعن الموت. الخلاص هو انتصار على المياه السفلى. يقول كتاب الرؤيا وهو يفكّر بهذا الرمز، انّه في الأرض الجديدة، "لن يكون هناك بحر"(21 /1) يملك الله وحده بينما غلب الموت الى الأبد.
وهكذا بامكان ماء العماد ان يمثّل سر صليب المسيح وأن يعيد إختبارات الموت والخلاص الكبرى الموجودة في العهد القديم، ولا سيما عبور البحر الأحمر العجائبي. هذه الإختبارات تبشّر هكذا بالصليب الذي ترى فيه المركز الخفي لكل تاريخ الخلاص. هكذا نرى انّ التوبه تمرّ بموت وانّ الطريق والحق ومغامرة الحبّ تمرّ بالبحر الأحمر وأنّ ارض الميعاد لا تُبلغ الاّ من خلال آلام وموت مَن هو الحق.
فالعماد هو إذًا اكثر من إغتسال وتطهير، وان كان هذا المعنى متضمّناً في رمز الماء. العماد بإسم يسوع المصلوب يتطلّب أكثر مما يقدر الغسل البسيط ان يحقّق. ابن الله الوحيد مات وقام. وحدها قوّة البحر المقلقة، وحده عمقه اللججي يتناسب وعظمة ما قد حصل" (رتنغر).

السؤال للعيـش اليـومـي:
- كيف إعيد إحيـاء معـاني عمـادي ومفـاعيلـه فـي حيـاتـي اليـوميـــّه؟.
آمين.