أشعيا :كتاب عمانوئيل - مع الأخت ماري أنطوانيت سعادة

لمحة تاريخية

بعد إبراهيم واسحق يكلّمنا الكتاب المقدس عن يعقوب الذي انتقل مع أبنائه الى مصر لاحقاً بيوسف. وبعد وقت طويل اضطروا أن يتركوها مع موسى جرّاء الإضطهاد. وعاش الشعب المختار 40 سنة في الصحراء الى أن دخلوا أرض الميعاد. وابتدأ عهد القضاة ، والقاضي كان الشيخ الحاكم بقضاياهم. ثمّ ما لبثوا أن طالبوا بملك يحكمهم كباقي الشعوب المحيطة بهم، فابتدأ عهد الملوك مع شاول وداوود وسليمان. مع وفاة سليمان، انقسمت المملكة وصارت جزئين، مملكة الشمال وعاصمتها السامرة، ومملكة الجنوب وعاصمتها أورشليم.
وعرفت مملكة الشمال وجود أنبياء ومهمتهم مساعدة الملك والشعب على الإرتداد والبقاء في خط الأمانة، على العهد الذي رسمه الرب معهم في سيناء. ومن أنبياء الشمال ايليا، اليشاع وعاموس، وهوشع. كذلك عرفت مملكة الجنوب أنبياء ومنهم أشعيا.

من هو النبي؟
النبيّ في الكتاب المقدّس هو الذي يُنبئ، أي يُخبر و ينقُل كلمة الرب التي وضعها على لسانه حتى لو اضطر الى الإستشهاد. هذا هو النبي الحقيقي. ونحن اليوم وراء يسوع صرنا كلّنا شعب أنبياء، حاملين رسالة الكلمة أمانة لنعطيها للعالم.

كتاب أشعيا
كتاب أشعيا مكوّن من 66 فصلاً، كُتبت خلال 200 سنة. من الفصل الأول حتى ال39، كتبه أشعيا أو أحد تلاميذه، وهذا هو الكتاب الذي نتكلّم عنه. أما الباقي فقد كُتب لاحقاً ودُعي باسم أشعيا لما له من الأهمية. الكتاب الثاني يمتد من الفصل 40 الى 56، والكتاب الثالث من 57 الى 66. انتهت كتابة سفر أشعيا كما نعرفه اليوم في القرن الخامس قبل المسيح.

لقراءة التاريخ المستتر وراء نصوص أشعيا، نعود الى سفر الملوك، فمثلاً الـملوك الثاني 16/2-3: "وكان آحاز ابن عشرين سنة، ودام ملكه سِتة عشرة سنة بأورشليم ولم يكن صالحاً في نظر الرّب إلهه متل داود جدّه. بل اقتدى بملوك إسرائيل (مملكة الشمال)، حتى أنّه أحرق ابنه في النار قرباناً للبعل".

كتاب عمانوئيل
"حدث هذا كلّه ليتمّ ما قال الرّب بلسان النبي أشعيا، ستحبل العذراء فتلد ابناً، يُدعى عمانوئيل أي الله معنا"(متى 1/22)، هذه الآية نقلها متى عن نبوءة أشعيا وتحديداً من القسم المسمّى كتاب عمانوئيل.

فمن هو النبي أشعيا؟ ماذا تتضمّن رسالته؟ وكيف نقرأ كتاب عمانوئيل؟
في القرن الثامن ق.م. وحوالي سنة 740، عُرف أشعيا على أنّه رجل أرستقراطي، قريب من البلاط الملكي وذلك في ظلّ  أربعة ملوك. وهذا ما نلاحظه في  سفر أشعيا: "هذه رؤيا أشعيا بن آموص، رآها على يهوذا وأورشليم في أياّم عُذّيا ( الملك) ويوثام (ابنه) وآحاز ( ابنه) وحزقيا ملوك يهوذا". وكان عُذّيا رجلاً مسنّاً، حكم بعده ابنه  يوثام أربع سنين ثمّ آحاز وحزقيا. وقربه من البلاط جعله بمثابة مستشار، وكان الملك يستشيره ببعض القضايا الطارئة خاصة أنّ مملكة الجنوب كانت محاربة  من الأشوريين والسوريين يعني بلاد كنعان مع مملكة الشمال.
دعوة أشعيا واردة في الفصل 6، بداية كتاب عمانوئيل الذي يمتد حتى الفصل 11. من خلاله يبدو الرب مجروحاً بحب الشعب المتقلّب، يمثله بصورة المرأة مع زوجها، فحيناً تتركه وتارة تعود. ويصف الرب هذه الحالة بعدم الأمانة الزوجية.

في الفصل الخامس ينشد الرب، على لسان أشعيا، نشيد الكرمة وهو في الوقت عينه نشيد حبّ مجروح.  "دعوني أُنشِد لحبيبي نشيد حُبي لكرمه". كان لحبيبي كرمٌ في رابية خصيبة، نقبَه ونقّى حجارته وغرس فيه أفضل كرمةٍ. بنى داراً في وسطهِ وحفَر فيه معصرةً، انتظر انْ يُثمِر عنباً فأثمر حصرماً برّياً. ثمّ ينتقل الى لغة المخاطب: "يا سكّان أورشليم ويا رجال يهوذا، احكموا بين كرمي وبيني. أيّ شيء يُعمَل للكرم وما عمِلتُه لكرمي؟ فلماذا أثمر حصرماً برّياً، حين انتظرتُ أن يُثمِر عنباً؟ فاعلموا ما أفعل بكرمي: أُزيل سياجَه فيصيرُ مرعىً، واهدِم جُدرانَه فتدوسه الأقدام، اجعله بوراً لا يُفلحَ ولا يُزرع، فيطلع فيه الشوك والعوسَج، وأوصي الغيوم انْ لا تُمطِر عليه، كرمُ الرّب القدير بيت اسرائيل وغرسُ بهجته شعب يهوذا. انتظر الحقّ فإذا سفك الدماء، والعدل فإذا صراخ الظلم" (أش5/3-7). هذا النشيد يمثّل على لسان أشعيا، حالة الشعب، وبمعنى مجازي نفسيّة الله، نفسيّة الرّب، الذي يعمل و يحافظ على شعبه، يجري وراءه و يهتم لأمره... كالولد على كتف أمه، كالنسر الذي يخبّىء طفله تحت جناحه ، هذا هو الرب الذي يريد الخير لشعبه الذي يخيّب له أمله، إذ جعل من نفسه "سفاك دماء". هذا أول الكتاب فإذا بالنبي يجازف بنفسه ويخاطب الشعب بكلام قاس.

في الفصل 6، يقول أشعيا: "رأيتُ السيد الرّب جالساً على عرشٍ عالٍ رفيع وأطراف ثوبه تـملأ الهيكل". هذه الصورة، تعني أنّ أشعيا، كان يرى بهاء الرّب، هالة الرّب في الهيكل. وهيكل سليمان كان مزيّناً بالستائر عابقاً بالبخورفالذي يدخله كان يشعر بالرهبة.

وما حصل مع أشعيا يُسمّى Théophanie، فكأنّ الرّب ظهر واهتزّت الأبواب من أصوات المنادين وامتلأ الهيكل دُخاناً ( بخّور). فقلتُ: ويل لي! هلكتُ لأنّي رجلٌ دنس الشفتين ومقيم بين شعبٍ دنس الشفاه. (عِرِف لمّا رأى مجد الرّب، ورأى حالته وحالة شعبه)، "فالذي رأته عيناي هو الملك الرّب القدير" هم ينصّبون ملكاً زمنيّاً ضعيفاً ومتراخياً، أما هو فقد رأى الرب الملك القدير. وهذه وظيفة النبي، أن يذكِّر أبداً بالملك الحقيقي و هو الرّب القدير. "فطار اليّ أحدُ السّرافيم وبيده جمرة (الجمرة الغافرة) أخذها بملقط من المذبَح ومسَّ فمي وقال: أُنظر هذه مسّت شفتيك فأُزيلَ اثمُك وكُفِّرَت خطيئتك".(أش 6/57). معنى هذا، أنَ  أشعيا عاش خبرة حقيقية، لا نعرف تفاصيلها ولكنّه مسّ بجمرة من الرّب وتطهرت شفتاه بحيث أصبح قادراً على إعلان الكلمة الموكلة إليه.  "وسمعتُ صوت الرّب يقول: مَن أُرسِل؟ من يكون رسولاً لنا؟ فقلْتُ: ها أنا لك فأرسِلني فقال: اذهَبْ وقُلْ لهذا الشعب، مهما سمعتُم لا تفهمون (وهنا كلّ حسرة قلب الرب) مهما نظرتُم لا تُبصِرون وقال: اجعل قلب هذا الشعب قاسياً، أذنيه ثقيلتين وعينيه مغمضتين"، (أش6/8-10). هذا لا يعني أبداً أنّ الرب هو المسؤول عن قساوة قلوبهم، بل هي طريقة في قراءة الأحداث بحيث ينسبون كلّ شيء الى الله.

وكان آحاز تحالف مع الأشوريين ضدّ إسرائيل لحمايته، وإظهاراً لصدق نواياه قدّم ابنه محرقة، ففقدت المملكة الوريث.
ويقول أشعيا في الفصل 7: "في أيام آحاز بن يوتام، بن عُزيّا ملك يهوذا صعِد رصين ملك آرام وفقح بنُ رمَليا ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها، فما قدرا أن يستوليا عليها. فلمّا وصل الخبر إلى بيت داود، وقيل له إن الآراميين نزلوا في أرض شعب افرايمَ، اضطرب قلبه وقلب شعبه اضطراب شجر الغاب في وجه الريح". (أش7/1-2).

"فقال الرّب لأشعيا: اخرج لملاقاة آحاز، انتَ وشآر ياشوب ابنك، إلى آخر قناة البركة العُليا في طريق حقل القصّار وقُلْ له: تنبّه واطمئن ولا تخف ولا يضعف قلبك". يحاول الرب أن يهدّىء من روعه ويبلور ثقته به.

وفي الآية 10: "وعاد الرّب فقال لآحاز: أُطلب لنفسك آية من عند الرّب إلهك، إما من أعماق الهاوية وإما من أعالي السماء". (ليظهر له قوته)، "فقال آحاز: لا أطلب ولا أُجرّب الرّب". (دلالة على عدم إيمانه بقدرة الرب).

"أمّا أشعيا فقال: اسمعوا يا بيتَ داود! أما كفاكُم أن تُضجروا الناس حتّى تُضجروا الهي أيضاً؟ ولكن السيّد الرّب نفسه يُعطيكم هذه الآية: ها هي العذراء تحبلُ وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل". هذه الآية أعطاها الرّب لآحاز حتّى لو لم يكن يستحقها. وما هي هذه الآية؟ مات ابنه محرقة وما بقي عنده وريث. ولكن ها إن العذراء، أي الشابة، تحبل وتلِد ابنا ً.هذه علامة الله بينكم، الملك الجديد الذي ستولى الحكم. وهذا هو المعنى الأول.

المعنى الثاني، وهوكما فهمه متى، الآية التي أعطاناها الرب هي عمانوئيل إلهنا معنا. وبما أنّ حزقيا ابن آحاز كان أسوأ من أبيه، إذن ليس هو الملك المنتظر، بل آخر.

إنجيل متّى يبدأ بعمّانوئيل وبينتهي: ها أنا معكم إلى مدى الدهر يعني عمّانوئيل، ولهذا أطلق هذا الإسم على الكتاب ككلّ.

في الفصل 9 استعراض لحالة الشعب الضعيف، اليائس، المحارب داخلياً وخارجياً والسائر في الظلمات.

أما الفصل 10 فيعلن: "الشعب السالك في الظلام رأى نوراً ساطعاً، والجالِسون في أرض الموت وظلالِه أشرق عليهم النورُ. منحتهم ابتهاجاً على ابتهاج وزِدتهم فرحاً يا ربّ، كالفرح في الحصاد فرَحَهم أمامك وكابتهاج من يتقاسمون الغنيمة، لأنّ النيرَ الذي أثقلهم والخشبة التي بين أكتافهم كسّرتها مع قضيب مُسَخَّريهم كما في يوم مِديان. نِعال العدو في المعركة، مع كلّ ثوبٍ مُلطَّخ بالدماء، أحرقتها مأكَلاً للنار. لأنّه يولَدُ لنا ولدٌ ويُعطى لنا ابنٌ وتكون الرئاسة على كتفه، يُسمّى باسم عجيب، ويكون مُشيراً والهاً قديراً وأباً أبديّاً ورئيس السلام. (أش10).
سُلطانه يزداد قوّةً، ومملكته في سلام دائم. يُوطّد عرش داود ويُثبّت أركان مملكته على الحقّ والعدل من الآن إلى الأبد. غيرةُ الرّب القدير تعمَلُ ذلك".
اذاً الشعب كان بانتظار تحقيق مواعيد الله، الذي بمجيئه سيكسر نير عبوديتهم ويخلّصهم.  هذا الشعب السالك في الظلام ابصَر النور، نوراً عجيباً ساطعاً مصدره السماء لا الأرض، "أنا نور العالم". وهذه قراءة مسيحيّة للكتاب المقدس. "لأنّه وُلِد لنا ولد"، هذا هو الوعد (الكتاب يتكلم عن ابن الملك، أما نحن فعن ابن الملك الحقيقي الذي هو يسوع). "وُلِد لنا وَلد، أُعطي لنا ابنٌ تكون الرئاسة على كتفه"، ( لا رئيس، ولا ملك سواه) "يُسمّى باسم عجيب، خلاص، ويكون مُشيراً والهاً قديرا"ً، ( هذا النص بالنسبة لنا نبوءة) هو الولد يصير أباً أبديّاً رئيس السلام. يضع الحق والعدل ولا شيء غير مستطاع عند الله.

الفصل 11 يبدأ :" يخرج فرعٌ من جزع يسى. يسى كان أباً لعدّة أولاد وقد أوكل الرب الى صموئيل أن يختار من بينهم ملكاً. فاختار صموئيل الأجمل والأكبر والأفضل، ولكنّ الله رفض أن ينظر للمظاهر وهو المهتم لما في القلب. وبعد أن استعرض أولاده جميعاً، تذكّر داوود راعي الغنم فاستدعاه واختاره الرب مع كونه الأصغر.

 وبعد داوود وسليمان انقسمت المملكة وشاخت وكأنها يبست لذا قيل "يخرج فرع من جزع يسى". وهنا الأعجوبة في هذا الغصن النامي و روح الرّب  عليه، روح الحكمة والفهم والمشورة روح القوّة والمعرفة والتقوى، ويبتهج بمخافة الرّب. لا يقضي بحسب ما تراه عيناه ولا يحكمُ بحسب سماع أذُنيه، بلْ يَقضي للفقراء بالعدل ويُنصِف الظالمين بكلامٍ كالعصا، ويُميت الأشرار بنفخة من شفتيه. يكون العدل حِزاماً لوِسطه والحقّ مِئزراً حول خصره. فيسكنُ الذئب مع الخروف، ويبيتُ النّمر بجانب الجدي. ويرعى العِجل والشّبلُ معاً وصبيّ صغير يسوقهما، وتصاحِب البقرة الدّب ويبيتُ أولادهما معاً. ويأكل الأسد التّبن كالثور، يلعب الرضيع على وكرِ الأفعى، ويضع يده في مَكمن الثعبان. لا يُسيءُ أحدٌ ولا يُفسد أينما كان في جبلي المقدّس لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرّب، كما تملأ المياه البحر" (اش11/1-9).
الغريب أولاً، أنّ وعد الرب قائم على الجفاف واليباس، وهو القادر أن يُخرج من الموت حياة.
ثانياً وعده قائم على فرع صغير، صبيّ، ولد.  فحضور الرّب يأتي دائماً بطريقة خفيّة، ناعمة، صغيرة، حبّة خردل، خميرة عجين.
بطريقة أُخرى، ملكوت الله في أرضنا صغير، ولكنه يملك ديناميكية الذرّة.
يأتي إلينا صغيراً، ويضع ذاته بين أيدينا لنهتم به فيكبر وينمو، وهذا ما نطلبه بقولنا: "ليأت ملكوتك".
ورسالة عمانوئيل بيننا هي بشارة للمساكين، للفقراء، للمظلومين، لكلّ إنسان محتاج ليس فقط ماديّاً بل حاجة حقيقية للحبّ أو للعاطفة، لكلّ شي. ومن منا ليس بحاجة. وهذا يذكّرنا بنشيد مريم "يحطّ المتكبّرين ويرفع"... ومتى جاء ملكوته يعيش الذئب مع الخروف، والنمر مع الجدي، والعجل مع الشبل وتمتد المصالحة الكونية البشرية في الخليقة كلّها. وهذا مسعانا، فلا نرضى بالظلم الذي يحيط بنا فنحن فعلة في ملكوت الله وإليه نسعى.
وينتهي كتاب عمانوئيل بنشيد الحمد، "الرّب قوتي وتسبيحي، اطمئن إليك، فلا افزَع، والآن أنتَ يا الله مُخلّصي، وتستقون المياه من ينابيع الخلاص وتقولون في ذلك اليوم احمدوا الرّب وادعوا باسمه، اخبروا في الشعوب بأعماله، اذكروا أنّ اسمه تعالى، سبّحوا للرّب صانع العظائم، أعلنوا ذلك في الأرض كلّها، اهتفي ورنّمي يا ساكنة صهيون. عظيم في وسطك قدّوس إسرائيل"(أش12/1-6).

لقاء11 كانون الأوّل 2002
مع الأخت ماري أنطوانيت سعادة – دار سيدة الجبل