التتلمذ - الأب مارون مبارك

"أعـطيكـم وصيّــة جـديـدة:
أحبّوا بعضكم بعضاًكمـا أحـببتكـم، أحبـّوا أنتم أيضاً بعضكـم بعضاً
اذا أحـبّ بعــضــكم بعضــاًعرف الناس جميعاً أنكّم تلاميذي"(يو 13/34-35)

الجمعة 27 / 12 / 2002
عنايا – عيلة مار شربل
لقاء مع الأب مارون مبارك – مرسل لبناني

الموضوع: "التتلمذ"

مقدمة: انّه اللقاء الثالث على التوالي، فيه نجتمع مع عيلة مار شربل، لنختم عاماً ونبدأ عاماً جديداً، ونحن مفعمون بالفرح المسيحي الذي يتجسّد بالانفتاح على كلمة الله وعلى وجوه بعضنا البعض. ليس اللقاء صدفة بل هو تدبير إلهيّ يدعونا إليه الرّب لنكون في جهوزيّة القبول والعطاء وهذا سرّ من أسرار إيماننا المسيحي الكبرى. لأنّ الاختبار الروحي يعلّم أن العلاقة وثيقة بين الاثنين وهي ضرورية ومتبادلة إذ لا عطاء بدون قبول ولا قبول بلا عطاء. الاثنان يتغذّيان من بعضهما البعض لكي تنمو المسيرة الروحية. وفي كلّ سنة نحن نجتمع في هذه المناسبة لنزيد خبرة قبولنا لكلمة الرّب ونطوّر عطاءنا في عملنا وشهادتنا.
كنّا تأملنا في السنتين السابقتين بموضوعين يتماشيان مع مرحلة التبديل بين العامين القديم والجديد. فتوقفنا في سنة اليوبيل 2000 عند موضوع "العبور"؛ ومن بعد ما عبرنا، توقفنا في السنة الماضية لانطلاقة اليوبيل، في 2001 عند موضوع "الإنتماء" أي التجذّر في الإنطلاقة لأنّ المشوار طويل. نتوقف هذه السنة 2002 عند موضوع "التتلمذ" أي تغذية الإنتماء الأوّل بانتماء متواصل عبر وسائل التعبئة والتنمية لتزويد مسيرتنا الروحية بالقوى اللازمة حتى تتابع مسارها نحو الهدف.

1 - العنوان الرسمي للقاء اليوم هو "التتلمذ": وإذا ما أردنا أن نعبّر عنه بلغة ظريفة نقول "معهد يسوع العالي لفنون الحياة الجديدة". هكذا نكسب معه المفهوم الأصيل للتتلمذ. ومعهد يسوع في الزمن الذي نعيشه من هذه السنه يستوقفنا في فرعه الخاص: "المغارة"، لأننا لا نزال نعيش الأجواء الميلادية لا بل ما زلنا في "عجقة العيد الروحية". وعلى مثال كل التلامذة الذين دخلوا المعهد: يوسف ومريم، الرعاة والمجوس، نحن ندخل فيه لأننا مدعوون اليه. فالميلاد الذي فيه نعيّد ونفرح سرّ تجسّد ابن الله، لا يخص فقط معاصري الحدث بل يخصّنا كلّنا، في كلّ العصور، نحن الذين نقف أمام الحدث ليصير حديثنا ومحور محادثتنا. اننا في "صف المغارة" نتعلم أمثولتنا بالتتلمذ للمسيح، أي الموعود السماوي الذي تحقّق.

2 - صفوف المرحلة الأولى من معهد يسوع العالي لفنون الحياة الجديدة هي صفوف "الهواة":
كان الرعاة في القفر يسهرون على قطيعهم فإذا بالملاك يعلمهم بأمر ولادة الملك الجديد المنتظر. لم يكونوا في حالة معرفة كبيرة. كلّ ما استندوا عليه هو كلام الملاك. عادة يمتاز الشخص الهاوي بأمور ثلاثة:
أ- الحماس: أي الطموح إلى الأعلى. يسعى بكلّ قواه لكي يحسّن وضعيتّه. هذا ما حصل للرعاة أنفسهم. كانوا يهتمّون بأمر قطيعهم، يسهرون عليه وما أن سمعوا بشارة الملاك حتى هبّوا إلى الرحيل لكشف سرّ ما سمعوه من قبل الملاك. لقد فُتحت أمامهم طريق تحمل لهم المرجوّ الجديد الذي يرفع من مستوى الحياة.
ب- قلة الخبرة: أي يعرف المبتدئ فقط ما سمع، ليس بعد قادراً على ربط الأمور وتحليلها والاستنتاج السريع. يستعمل فقط ما عنده وما هو بين يديه من معلومات. فالرعاة لم يشغّلوا المنطق كثيراً، كلّ ما قاموا به هو الحركة التنفيذيّة، أي الانتقال إلى تطبيق الكلام كما هو livresque قالوا كما قيل لهم وليس كما هم فهموا.
ج- اقتناص الفرص: أي ينتظر الهاوي أن تأتيه الظروف المناسبة لكي يفيد منها ويتقدم في مجال عمله. لم يفوّت الرعاة الفرصة التي قدّمها لهم الملاك بل بسرعة لبّوا النداء وقرّروا الذهاب. انهم هواة قرروا عيش المسيرة وهكذا بدأوا مشوارهم:
- قرّروا سوية، فقرارهم الجماعي أعطاهم فرصة جديدة لكي يذهبوا إلى الأمام ولكي تزيد خبرتهم ويرتفع مستوى ادائهم.
- ساندوا بعضهم البعض، فالسند الجماعي سمح للسعي إلى النجاح أن يتحقق، يعرف الهواة أن قوّتهم محدودة لذلك يساندون بعضهم لكي يجدوا منبعاً للقوة من خلال التعاون.
- نفذوا معاً المسيرة، فالتنفيذ الجماعي يساعد على النجاح والوصول إلى تحقيق الهدف. لقد دعموا بعضهم البعض في المسيرة ووصلوا لعند الهدف المنشود ووجدوا الملك الطفل مضجعاً في مذود.
خبرة الرعاة "الهواة" نعيشها نحن في مشوارنا الروحي، في التفتيش عن الرّب المتجسّد "الهنا معنا". نعيش الحمية والحماس في علاقتنا ونريدها مثالية، إلا أنّ قلة خبرتنا تجعلنا نفشل في الاختراع للجديد بل نعرف ما تعلمناه فقط ومشوارنا لا يزال قصيراً. إلاّ انّ الرّب يوفر لنا الفرص الموآتية، بحيث كثّر لنا الظروف الحلوة والمناسبات الروحية الغنيّة لكي نفيد منها. فلا يبقى أمامنا إلاّ القرار وكلّ مرّة يكون القرار جماعياّ، مدعوماً ومسنداً بالتعاون الجماعي ينجح. هنا نفهم قيمة البُعد الكنَسي الجماعي في عيش خبرتنا الروحية الميلاديّة. فالهواية عندنا في عيش الميلاد تبقى في الحماس والقرار والتحرك. ولكن يبقى "القبول"، "اللقاء الشخصيّ" و"العمق في العلاقة". وهذا ما يرفعنا إلى مستوى أعلى في الاحتراف في معهد يسوع العالي لفنون الحياة الجديدة.

3 - صفوف المرحلة الثانية: "الإحتراف".
إنّ الإحتراف مرحلة عالية من التقدّم العملي في حياة الإنسان. يجمع إلى جانب العلم الخبرة العمليّة، فيصير ملمّاً بالأمور إلى درجة سهولة التصرف وكثافة الانتاجية وبالتالي النجاح. يمتاز المحترف:
"1- أن يعطي الوقت لعمله، يكرّس وقته لما يقوم به وينجح به، فيصرف وقته في البحث والتفتيش والتعمق والتفكير لأجل تحسين ما يقوم به. الوقت في حياتنا قيمة كبيرة لو عرفنا استخدامها بجديّة لربحنا الكثير ووصلنا إلى القداسة. الوقت هو زمن تتوالى فيه الأحداث، هو تاريخ الأيام التي تمتلئ بالعيش؛ أعتبره "قوة، طاقة" تساعدنا على كسب عيشنا ليس بالمعنى الماديّ بل بالمعنى الحياتيّ، أي أو نربح حياتنا معنوياً أو نخسرها. الوقت ضرورة في حياتنا كي نتعلم الأمور ونختبرها ونتقنها.
"2- أن يجمع ما بين المعرفة النظرية والخبرة العملية ممّا يزيد في تقدمه بالمعرفة في المادة التي يتعاطاها. تزيد معرفته بالحقيقة لا بل علاقته بها ممّا يجعله يبدع ويزيد في عطائه وإنتاجه. هذا ما يجعل منه مرجعاً في مادته، يُحسب له الحساب ويحاول تطويرها وتقدمها نحو الأفضل، ويعطي دائماً الجديد فلا يكرر ما عنده ولا يتراجع في عطائه، يصبح نبعاً دافقاً بالمعطيات الجديدة والمفيدة لعالمه.
"3- أن يدخل في ذهنية علمية دقيقة وجدية جوهرية، لا يقف عند السطحي بل يتخطاه لأنه أصبح واسع المعلومات وكثير الفهم في مادة عمله. انه يتبع قوانين عمله ولكنه قادر أن يتخطى نظام عمله دون أن يهدم هدفه وأن يفقده، بل يخترع الجديد بشكل يتوافق مع النظام وإن كان يخرج عنه قليلاً. يحترم القوانين العلميّة والأنظمة الفنيّة بطريقة غير مباشرة بحيث يحافظ على جمال عمله وعلى منفعته وإن لم يتبع قاعدة عامّة، عادة الهواي لا يعرف تخطّيها. ولو عدنا إلى صفّ المغارة لوجدنا الرّعاة يتّبعون طريقة "الإحتراف" من خلال عمليّة تجاوبهم مع كلام الملاك وتفاعلهم معه.
- لقد بدأوا يعيشون الخبرة العملية من بعد ما قبلوا الكلمة وأخذوا العلم منها. لقد جمعوا ما بين السمع والنظر.
- سمعوا كلام الملاك، فعاشوا عملية "الإصغاء"، وهي عملية عميقة تساعد على الغوص في الحقيقة. فالإصغاء هو حالة وعمل يقوم به المرء لكي يضع ذاته بتصرف الحقيقة حتى تمتلكه ويصير هو في داخلها وليس فقط هي في داخله. تستوعبه الحقيقة لدرجة لا يعود يعيش إلاّ فيها. ليست جزءاً منه لأنها دخلت في معرفته، بل غرق هو فيها حتى صارت منه في كلّ وقت. فالرعاة دخلوا في هذه الخبرة من الإصغاء لذلك تحرّكوا بدفع من الحقيقة فكان قرارهم مبنيّاً على ما "قاله لهم الملائكة".
- نظروا في المغارة فشاهدوا العيلة المقدسة، وشاهدوا ما شاهده مريم ويوسف بالذّات؛ هكذا اختبروا عمليّة "المشاهدة أو التأمل"، وهي أيضاً عمليّة عميقة تساعد على الغوص في الحقيقة من الباب الواسع، أي التبحّر بما ينظر الإنسان يجعله يدخل في حقيقته الخفيّة. هكذا عندما رأوا الطفل في المذود وربطوا ما بين سمعوا عنه وما يرون فيه فهموا جيداً حقيقته. جعلتهم يمتلئون منها. المشاهدة تحرّك المشاعر وحرارتها فتحمل الإنسان على العمل تحمله على التنفيذ وتطلقه في حياة جديدة. لذلك أخبر الرعاة من بعد ما شاهدوا كلّ ما قاله لهم الملاك عنه. بمعنى دخلوا في ملء اللعبة؛ لأنّهم صاروا يتحدثون ليس فقط على طريقتهم بل على الطريقة التي وصفها لهم الملاك. لقد تأقلموا مع الملاك تجاه حقيقة الطفل ← صاروا في قلب الحقيقة، نقلوا حياتهم إليها وليس فقط أدخلوها في حياتهم.
بذهابهم إلى المغارة ودخولهم إليها، وربط ما بين ما عرفوا نظرياً من الملاك وما خبروا بذاتهم عندما شاهدوا الطفل في المغارة، توصّل الرعاة إلى "الإحتراف" في علاقتهم مع يسوع. وهكذا نحن مدعوّون إلى هذا النوع من الإحتراف في تفعيل عمليتيّ السمع والنظر. فالسمع في حياتنا يقوّي فينا الانصياع والطاعة لإلهامات الرّب في قلبنا وداخلنا، يجعل طاقات التسليم عندنا فاعلة إلى أقصى درجاتها وبالتالي نصبح على المستوى الواحد مع الرّب. أمّا النظر فمن ناحيته، يقوي فينا الحيويّة، يحرّك النيّة والقصد بالحقيقة المكتشفة ويدفع بالتالي إلى العمل والانطلاق. هذا ما نتعلّمه اليوم.

4 - صفوف المرحلة الثالثة: "الإبداع والنجومية"
بعد كثافة العطاء يكتسب المرء خبرة أوسع ويصبح على مستويات متعددة في العمل والعطاء، وهذا دليل الغنى. يمتاز النجم:
"1 - بالتألق: أي أنّه يُبدع في كلّ عمل يعمله الى درجة أن الكلّ يبحث عنه ويريد التعرّف إلى ما يعمل للإفادة منه.
"2 - بالنجاح: أي أنّه يتعب جداً على عمله ليخرج كاملاً وتكون المنفعة منه على أكبر مستوى. يعبّر من خلاله عن كلّ ما يختلج في داخله من طاقات ومن معاناة وخبرات، يعبّر عنها بأجمل وأنفع ما عنده من أفكار وأعمال. هكذا يصير محطّ الأنظار ويدفع بالناس إلى عشق الجمال والإبداع.
هكذا في المغارة، نرى الرعاة يعودون إلى حياتهم وهم يهلّلون ويسبّحون الله. صاروا نجوماً، من خلال حياتهم وشهادتهم، يعلنون عن المسيح ويدلّون الناس إليه. صاروا متألقين، لأن خبرتهم ومعرفتهم جعلتهم يعودون إلى حياتهم الطبيعية ولكن حالتهم ليست بطبيعية؛ يشهدون بفرحهم، يشهدون باندهاشهم، يشهدون باكتشافهم ← جمعوا ما بين ما قيل لهم وما بين ما نظروا وشاهدوا. لقد انتقلوا من خبرة صغيرة لكي يعبُروا على مستوى أوسع. لم يكتفوا بالدائرة الصغرى بل ذهبوا إلى الدائرة الكبرى، ذهبوا إلى الشموليّة التي تتعدّى حدود الزمن والجغرافيا، وهنا يكمن مفهوم "التسبيح".

الختام: الميلاد مدرسة الإبداع الإلهي في توجيه البشريّة نحو نجوميتها. جاء طفل المغارة، إبن الله لكي يعطي البشريّة درساً في إنجاح الحياة على الأرض وانطلق منها من باب النزول للصعود. من هنا سُمِعَ أنّ متكبراً قدر حلّ مشكلة، ولكن كلنا نؤكد أن هناك كثيرين من المتواضعين جعلوا المشاكل تمرّ وتخطّوها ونجحوا. وهذه رسالة معهد يسوع العالي لفنون الحياة الجديدة لهذه السنة. وهذا هو سرّ التتلمذ نعمل كلنا عليه.
آمين.