الحرية

Freedom

زوادة شهر أيلول 2019 -  "الحريّة" مع ريمون ناضر

 

موضوع الحرّيّة مطروح اليوم بشكل واسع وكبير نتيجة اعتبار الإنسان نفسه حرًّا فيستطيعَ بذلك أن يفعلَ ما يحلو له دون قيود.

الحقيقة الثابتة في هذا الموضوع أنّ كلَّ إنسانٍ يتوق فِطريًّا إلى الحرّيّة؛ لا أحدَ يهوى العبوديّة. إنّما الخوف هو أن تكون هذه الحرّيّة المنشودة زائفة، أي أن نكون في حالة عبوديّة مغلّفة بحريّة مزيّفة. وهذا ما سنكتشفَه في سياق تعليمنا اليوم.

لم نأتِ إلى هذه الحياة بإختيارنا؛ ولكنْ خيارُ دخولنا في الحياة الأبديّة هو حتمًا بِيَدِنا. فمجموعة الخيارات التي نأخذها على مرِّ حياتنا هي التي تؤدّي بنا إلى الملكوت أو لا سمح الله إلى الظلمة البرّانيّة.

كلُّ إنسان فريدٌ بذاته، له "بَصمَته" الخاصة. لا أحدَ يشبهه بين كلِّ البشر الذين خُلقوا أو سيُخلقون... وله مكانُه ودورُه في هذا الخلق – في مشروع الله. إن لم يأخذْ مكانَه، سيتركُ فراغًا ونقصًا. كقطعة ال Puzzle، إن نَقُصَت، بَدَت الصورة ناقصة مهما كان عدد القطع الباقية كثيرًا.

المفارقة تَكمُن في حرّيّة الإنسان، إذْ إنّه قادرٌ أن يرفضَ هذا المشروع! ولا عجبَ في ذلك فالله خلقنا على صورته، وأهمُّ صفة في الله هي الحرّيّة. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتمتّع بصفة الحرّيّة.

لنأخذَ مثلًا على ذلك فرقة الأوركسترا في عزف السيمفونيّة: كلٌّ لديه آلته / موهبته، ويختار الآلة الموسيقية التي يريد بحسب موهبته. ولكنْ ما إنْ يتمَّ الخيار، على الجميع أن يلتزمَ بالفرقة وبما يُمْليه المايسترو.

الملكوت هو السيمفونيّة الجميلة التي سَتُوَلِّدُ لحنًا رائعًا أراده المايسترو.

نحن في حياتنا نخطأُ ونصحِّح... هذا هو "الدُوزان". نُدَوْزِنُ آلاتنا لتصبحَ أصواتها متناغمةً مع السيمفونية وباقي الأوركسترا. وفي وقت العزف نلتزم باللحن لأجل السيمفونيّة. والجدير بالتوقف عنده أنَّ كلَّ الآلات لها جمالها مهما عَظُم أو صَغُر دورها. ولكنْ تخايلوا أحدَ العازفين – بحجّة أنّه "حُرّ" – يقرّرُ أن يعزفَ لحنًا آخر! مصيرُهُ حتمًا خارج الأوركسترا! ويكونُ ذلك بخياره الحُرّ.

فالبشريّة كلّها مرتبطة ببعضها بروحٍ واحد وفعلُ كلِّ إنسان له تأثيرٌ في كلِّ الكون. والله هو المايسترو الذي يدير كلَّ الكون وعلينا الإصغاءُ له.

وأنا، في كلّ هذه المسيرة، أين مكاني؟ أين حرّيّتي؟

هناك نوعان من الحرّيّة قليلًا ما نميّزُ بينهما:

الحرّيّة "مِنْ"
الحرّيّة "لِأَجْل"

الطبيعة البشريّة تتوق إلى الحرّيّة "مِن": الحرّيّة من القيود، الأنظمة، التقاليد... ولكنْ ما هي ثمارها؟ لا شيء سوى الفوضى!

حقيقة الأمر أنّ الإنسان بحاجة لهدفٍ أمامه؛ فهو حرٌّ لتحقيق هدفٍ ما. اليوم يتمُّ استعمال مصطلح الحرّيّة بعيدًا عن معناه: أنا حرٌّ أن أعمل الخطيئة، الشرّ، الشواذ،... أنا حرٌّ أن أؤذي وأفعل ما أشاء... بأحسن الأحوال أنا حرّ أن أفعل ما يحلو لي مبرّرًا ذلك أنّني لا أؤذي أحدًا...

لكنّ هذا التفكيرَ سطحيٌّ وسخيف؛ يُشبه من أراد العبور من مكان إلى آخر متغنّيًا أنّه حرُّ في اختيار وسيلة النقل ولكنّه لا يدري إلى أين يذهب... ما نفع هذه الحرّيّة؟! إذًا أنت حرٌّ من أجل أن تصل إلى مكانً مُحدّد وليس لمجرّد اختيار وسيلة النقل.

الشاب الذي يختار شريكة حياته من بين كل الإناث، يختار أيضًا بحرّيّته أن يصيرَ أبًا. خَيار الأبوّة والأمومة له تبعات ومتطلّبات. فلا يستطيع الأهل التحجّج بالحرّيّة للقول إنّهم لا يريدون تربية أولادهم والسهر عليهم... فأنت حرٌّ "من أجل" عائلتك ولست حرًّا "منها".

ونحن الملتزمون، نعتبر أنّ خيارَنا الكبيرَ هو مشروعُ القداسة، أنْ نكون في الملكوت تلبيةً لدعوة الله لنا أن نصير أبناءً وارثين له.

خَيار القداسة هذا، له متطلّبات، مثل خَيار العِلم والأمومة... كل الخيارات اليوميّة التي نقوم بها، يجب أن تكون بحسب خيارنا للمكان الذي نريد الوصول إليه: الملكوت.

في إنجيل القدّيس لوقا الفصل ٤، عندما قرأ يسوع فصلًا من أشعيا: "مسحني وأرسلني لأبشّر المساكين ولأعلن الحرّيّة للمأسورين." وقال: "اليوم تمّت هذه النبوءة"، كان اليهود ينتظرون مجيء مخلّص يحرّر الشعب من الاحتلال الروماني. في حين كان قصدُ يسوع مختلفًا تمامًا؛ ففي إنجيل القدّيس يوحنّا الفصل ٨، يقول يسوع:

"إِن ثَبتُّم في كلامي كُنتُم تلاميذي حَقاً، تَعرِفونَ الحَقّ والحَقُّ يُحَرِّرُكُم [...] كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة"

يسوع يشدّد على الحرّيّة الداخليّة؛ كلّ مرّة أكون في حالة الخطيئة أكون سجينًا لها. وهناك أنواعٌ كثيرة من السجون:

 الماضي: يأسرني الماضي عندما أبقى رازحًا تحت ثقل اختبارٍ أليمٍ عشتُهُ ولم أستطعْ أن أتخطّاه فيبقى ماضيّيَ حاضرًا معي في كلُّ حين.
 الخوف: وهو سجنٌ فعلًا مخيف. يستعبدني الخوف من الغد، من المرض أو الفقر... فأعيش بحالة قلق مستمرّ.
 الفشل: إمّا أخاف منه أو أعيشُ الفشلَ فيُولّدَ لديّ الإحباطَ فيستعبدني.
 عِقَد النقص: أكون عبدًا لعِقدة نقصٍ ما، أكان في جسدي أو شخصيتي أو تاريخي...
 العِلم، المال، السلطة، واللائحة تطول...

فإنْ نظرنا جيّدًا لواقعنا نجدُ أنفسنا سجناءَ في حبسٍ كبير ذا زنزاناتٍ متعدّدة. فكيف لنا بعدُ أن ندّعيَ الحرّيّة؟!

يضعُ الكتاب المقدّس لنا أمثلةً كثيرة لتعلّمنا كيف نتحرّر:

 أيّوب: قبل أن يتعّرف على الله، كان عبدًا لمقتناياته الكثيرة، ولكنّه اختبر الحرّيّة عندما خسر كلَّ شيء، أي كلَّ ما كان يستعبده.
 المرأة السامريّة: كانت مُستعبدة لخطيئتها، لماضيها الأليم، ولِرَفْض المجتمع لها، فجاء يسوع وحرّرها من جميع قيودها.
 زكّا: كان مُستعبدًا لعقدة نقصٍ لقِصرِ قامتِه، فراحَ يُعوّض عنها بالمال فانتقل إلى سجنٍ آخر. دخل يسوع حياته فتخلّى زكّا عن كلِّ شيء؛ كان زعيمًا يطلبُ الناسُ رضاه، فأضحى تلميذًا لا يبغي سوى رضى الربّ.
 بطرس: كان عبدًا للسمكات والمركب؛ صيّادًا محترفًا يُعطي الأولويّة لِعَمَله. جاء يسوع وحوّله لصيّاد بشر. فترك المركب مليئًا بالسمك وتبع الربّ (لوقا ٥).
 المخلّع والأعمى والأبرص...: كانوا سجناء جسدهم، حرّرهم يسوع
 بولس: كان يهوديًّا فرّيسيًّا عالِمًا للشريعة ورومانيَّ الجنسيّة... ومع ذلك حَسَبَ هذا كلّه نفاية إزاء الرِّبح الأعظم وهو معرفة المسيح (فيليبي ٣). فمن داخل سجنِه عندما كان الرومان يحاكمونه، صار يُبشّر بفرح المسيح: "إفرحوا بالربّ في كلّ حين، وأقول أيضًا افرحوا" (فيليبي ٤).

كل هذه الأمثلة من شأنها أن تضعني أمام واقعي لأكتشف أمرين:

 أنا سجينٌ وعبدٌ لأمور كثيرة.
 وحده المسيح قادرٌ أن يحرّرَني، ولا قوّة ولا أحد سواه يستطيع أن يُخرجَني من سجني.

وذلك كما قال يسوع: "إِن ثَبتُّم في كلامي".

عمليًّا، كيف أثبت في كلام يسوع؟ عند كلِّ خيار في حياتي اليوميّة، يأتي المُجرِّب ليقول لي: تحرّر "مِن" القيود والعوائق والمتطلّبات، في حين يقول لي الرّب: أنا أدعوك للحرّيّة "مِن أَجْلِ" أنْ تصيرَ إبنًا وارثًا للملكوت. وهذه الحرّيّة متى كانت مصحوبةً بالحُبِّ تذهبُ حتّى العبوديّة الطوعيّة. فأُصبحُ أحبُّ يسوع حتى العبادة ولا يعود هناك من عائقٍ أمام ثباتي بكلامه مهما كان صعبًا ومتطلّبًا. بل بالعكس، تصبح العوائق تدريبًا  يبني فيَّ الملكوت. كلام يسوع يعلّمني ما اختبر مار بولس أنّ كلَّ شيءٍ مُباح ولكن ليس كلّ شيء يبني. (١قو٦ / ١٢).

الشرير يريد أن يُصوّر الالتزام بكلام الله على أنّه حدٌّ من الحرّيّة، ويدعونا أن نفعل ما نشاء. في المقابل يمنعنا الله من أن نَحرُقَ أنفسنا بملذّاتنا. كالأب الذي يرى إبنه يلهو بالسكّين، فهو لا يتركه بل ينبّهه... فالحرّيّة لا يجب أن تكون في اختيار جهنّم.

القديس أغسطينوس مثلٌ رائع: فهو كان يعتبر نفسه حرًّا عندما انغمس بالملذّات، ولكنّه اكتشف العكس عندما تعرّف على الرّب.

وفي الختام، لغة الكون هي "الحبُّ الخصب" أي الذي يعطي ثمرًا. الحرّيّة التي لا تثمر محبّة تكون مزيّفة وعقيمة وهي عبوديّة مستترة. وحده المسيح يعطي الحرّيّة الحقيقيّة المملوءة حبًّا وبذلًا. وأوّل مفعولٍ مباشرٍ للحرّيّة بالمسيح هو الفرح. كلّ من تعرّف على يسوع وتحرّر إختبر فرحًا لا توازيه أيّةُ لذّة أو سعادة أرضيّة.

ومع بداية السنة اليوبيليّة لعائلتنا، نتأمّل بشفيعنا مار شربل، الذي عاش بطولة التحرّر من كلِّ شيء حتى من جسده، فما كان يربطه شيء بهذا العالم ووصل إلى قِمّة الحرّيّة.

ونحن أيضًا على مثاله مدعوون أن نختبر حرّيّة المسيح في هذا العالم لنعيشها في الملكوت، "مُدوزنين" أنفسنا على لحن الكون، لنسكر بالله ونعيش الفرح، الذي خُلقنا لأجله، ونأخذ مكاننا في مشروع الله كما جميع القدّيسين لنُثمرَ محبّةً تُمجّد الله، إلى الأبد.

 

الفيديو على الرابط التالي: https://youtu.be/0ZOr7tKa6rk