"العبــور" - الأب مارون مبارك

 عيلة مار شربل– لقاء تعليمي مع الأب مارون مبارك (مرسل لبناني ماروني).
عنايا - ألجمعة 29/12/2000
الموضوع: "العبــور"

(ملاحظة: هذا الموضوع منقول عن التسجيل الصوتي لهذا هو اقرب الى اللغة العامية).
عادة موضوع يُحكى عنه في عيد الكبير وهو عيد العبور ← الفصح.
نحن اليوم عند مفترق كبير وهو العبور من الألف الثاني الى الألف الثالث، ومن سنة إلى سنة، وعادة عند هذه المحطة نقف في الدخول مع حساب الذات وفحص الضمير.
لسنا هنا فقط لكشف حسابات، هذا يصنعه العمال والموظفون والشركات والمصارف، الحساب يكون بالأعداد والحصر. ولكن عندما نتكلم عن أشخاص وناس، لم يعد العمل بالأرقام بل أصبح أكثر، يتعداه إلى حقائق ووقاع وإلى تقدم وتراجع وإلى مشروع كبير متكامل لا يتجزأ بحقيقته وإنّما نجزّؤه حتى نفهمه.
- أخترتُ موضوع "العبور" لأننا في ملء مسيرة إذ قد تخطّينا البداية كما كنّا نشرح في السنة الماضية: لم نعد على العتبة، ولم نعد عند الباب إنّما دخلنا، وصرنا بالبداية، في المقدّمة. وهذا ما سوف نتوقّف عنده في تأمّلنا وتفكيرنا.
- عندما نتحدّث عن عبور، هذا يذكرنا في الكتاب المقدس بعملية ثانية تشبهها وتكملها وهي عملية " الخروجExodus"" باليونانية وتعني طريق – خروج. وهذا الخروج عاشه الشعب اليهودي في عبوره من حالة العبودية في أرض مصر الى حالة الحرية في أرض كنعان وهي الأرض الموعود بها. وهذه العملية هي مسيرة شعب دُونت تفاصيلها في كتب الشريعة: (الخروج – العدد – تثنية الاشتراع)، وكان قائد هذه العملية موسى.
هذا الحدث في التفكير اليهودي والمسيحي، هو المثال والعربون لكل نجاة يصنعها الله لصالح شعبه.
1- بالعهد القديم كان هنالك نوعان من الخروج والعبور:
أ- الخروج الأول: هو "الولادة" الحقيقية لشعب الله. "تكونون لي شعباً وأكون لكم الهاً". هنا تبرز بشكل كثيف أبوّة الله. كما يتحدث هوشع (في 11/ 1-10).
وهذا الالتفاف حول بعضهما البعض جعل الرب ينقذ شعبه كل مرّة كانت تحدق به الأخطار أولاً في مصر، ثم عند خطر الأشوريين (أشعيا 10/ 25-27) أو عند خطر البابليين (ارميا 16/ 14-15).
ب- الخروج الثاني: هو بعد أن أستعبد الشعب وسُبيَ إلى بابل على أثر خياناته، أعلن الله له النجاة كتجديد للخروج. فأراد الله مرة أخرى أن يفدي شعبه ليستعيد العرج والضعفاء قوّتهم، وليستعدوا للإرتحال. وسيكون الله هو مرشد الجماعة الجديدة هذه، وسوف يساعدها انشقاق نهر الفرات مثل بحر الأحمر راجع (أشعيا 11/15-16)، وتفجير المياه كما حدث في موضع الخصومة (أشعيا 35/6-7) وسوف تتحول البرية الى بستان (أشعيا 35/7 + 41/19).
2- بالعهد الجديد: كل هذه الصور والرموز بالاضافة الى المعاني ← تحققت بيسوع. انه هو موسى الجديد، أي قائد عملية العبور الجديدة، انه هو محقق الخروج والانتقال من حالة الخطية الى حالة النعمة.
انطلاقاً من كل هذه المفاهيم التي تدل على:
- عناية الله بنا.
- النجاة التي يحققها لنا الله في حياتنا بيسوع.
- ألخلاص الذي يصنع الله بنا ولنا.
ها نحن نقف على معبر الألف الثالث ونتأمل 3 حقائق نعيشها بالمعبر:
-1- حقيقة الانتظار:
أ - انه شوق، لهفة، لمسنا شيئاً ولم نعد نعرف كل شيء ونريد الوصول الى هذه المعرفة.
ب- انه تكريس للوقت. لقد قدس لنا الرب الزمن كما تقول رسالة العبرانيين. (في ملء الزمن أرسل ابنه مولوداً من عذراء). لم يعد الزمن أو الوقت لعبة ماضي وحاضر ، انما لعبة حياة. نحن لم نعد نجتمع فقط لنودع سنة ونستقبل سنة كما يفعل أهل العالم. نحن نجتمع لنطرح على ذاتنا السؤال: اننا نتقدم في حياتنا.
* فهل كبرت فينا نعمة الله؟
* فهل نمت فينا الفضائل؟
* فهل صرنا حقاً مؤهلين للدخول في ما بعد الزمن؟
وهذه الأسئلة تجعلنا نقف أمام حقيقة الوقت التي ائتمنَنَا الله عليه: بمعنى كيف نكرّس وقتنا كيف نخصّصه لله؟ كيف نقدّس وقتنا؟ كيف نرفع وقتنا ليكون لمجد الله ولخيرنا الروحي؟ كلّنا نصرخ كلنا نتألّم من الوقت وكلنا نتأمّل بالوقت. نتألّم لفقدانه ولضياعه ولندرته، ونتأمّل لأننا ننظر الى المستقبل ونريد أن نعوّض عن الماضي. ولكن الوقت هوَ هوَ نفسه (كما تقول الأغنية الفرنسية القديمة التي استشهد بها ذاك الراهب المتوحّد أمام عالم النفس الفرنسي في كتاب (le Moine et le psychiatre) عند سنة العبور: نسأل ماذا أفعل بالوقت؟
-2- حقيقة كشف الأوراق:
عند كل حاجز عبور نحن نكشف هويتنا ولا بدّ لنا أن نكشف هذه الهوية عند معبر الألف الثالث:
- من أنا الانسان:
* ألمخلوق من يد الله.
* عندي المقدرات من قوى داخلية وفكر وروح...
* عندي القوى الجسدية: عضل للعمل، يدان للعلاقات، رجلان للتنقل...
* عندي القوى النفسية: الإرادة للقرار، الخبرة لتقوية المعرفة، الاندفاع للحركة، النضج للإنتاج.
* عندي القوى الروحيّة: الإيمان والرجاء والمحبّة حتى أعرف أتخطى...

- من أنا المسيحي:
* ألمعمّد لأكون ابن الكنيسة وأعمل رسالتها.
* يتبع يسوع في تعاليمه وإنجيله.
* يسعى الى قداسة نفسه وهذه دعوته الأساسية في حياته الثانية.
- من أنا المؤمن الملتزم:
* الذي يتعمق بروحانيته.
* الذي يتجذّر في دعوته اينما وضعه الربّ (العيلة، المجتمع، كأب وأم، كإبن، كموظف، كمواطن...).

كل هذا يتطلب مني اذاً درساً معمّقاً لوضعي. هذا ما نسمّيه فحص الضمير، كل منا عنده ضمير. ولكن السؤال ما هو قياسه؟ ومَن هو مقياسه؟ وهذا يجعل الضمير يتغيّر من شخص إلى آخر. منهم مَن ضميرهم حيّ، ومنهم مَن هو مخدّر نائم أو ميْت، حسب ما يستخدمه. ونحن نستخدم الضمير بقدر ما نفحصه، عندما نفحص الضمير عندها يبدأ بالعمل، واذا لم نفحصه يتوقف عن العمل.
والضمير اذا حدّدناه: "انه صوت الله فينا".
وعمل الضمير:
- يوجه الإنسان إلى خيره.
- يؤنب الإنسان على غلطه.
- يرشد الإنسان على طريقه وخلاصه.
- يحدد ما يريد الله لمنفعة الإنسان.
اذاً عندما نقف عند معبر الألفيات، نحن لا نبكي على الماضي ولا نذرف الدموع عند الأطلال. نحن نقف أولاً وقفة عزّ وافتخار لما سكب الله فينا من معطيات، ونقف ثانياً وقفة تأمل لنمعن النظر في مدى تحقيقنا لهذه المعطيات وتنميتها ومن ثم اخذ وقفة ثالثة وقفة اعتبار حتى نأخذ العبر من أجل متابعة المسيرة، لأننا عند مفترق ليس إلاّ.
-3- حقيقة العبور أو إذن العبور
بعدما نكون قد كشفنا عن هويتنا يختم لنا الرب إذن المرور، اي المرور إلى حيث وعدنا، إلى حيث ينتظرنا، إلى حيث نحن نتشوق. إذن العبور يحتوي على تعليلين:
أ- الارادة بالتغيير: كل منا يريد أن يتقدم وأن يتغيّر وأن يعطي أكثر وأن يكون نافعاً أكثر لنفسه ولغيره، وهذه الارادة تقوى وتضعف.
- تقوى إرادتنا بقدر ما نغذّيها من كلام الله.
- تقوى إرادتنا بقدر ما ننعشها بالصلاة على أنواعها.
- تقوى إرادتنا بقدر ما نمرّنها على عمل التضحية...
- تضعف الإرادة بقدر ما نهمل واجباتنا.
- تضعف الإرادة بقدر ما نؤجّل فروضنا.
- تضعف الإرادة بقدر ما نسلّم أمرنا للكسل والضعف.

إذا أردنا التغيير بذاتنا أو من حولنا، لا بدّ لنا من أن نبدأ بممارسة تمرين هذه الإرادة على طريقة هذه الوصفة التي تساعدنا أكثر لتحقيق نمو الإرادة.

ب- تعليل الله الثاني ليأذن لنا بالعبور هو القدرة أو المقدرة:
لا يكفي الانسان أن يريد، إنما أن يقدر. هذا ما كان يصرخ به مار بولس عن الصراع الذي فيه (الخير الذي يريد إياه لا يعمل، والشرّ الذي لا يريد إياه يعمل) وجاءه جواب الربّ (تكفيك نعمتي).
- يبقى السؤال من أين لي القدرة؟
- ألقدرة تُكتَسَب وذلك بالعمل، عندما أبدأ هكذا أتأمل أن أصل إنّما إذا وقفت أتفرّج حتماً لن أصل...
- ألقدرة تحتاج الى دوافع وبدون دوافع الإنسان لا يصل الى تحقيق أهدافه: هنالك دوافع مادية – روحية – معنوية... كلّها تجعلنا نعمل وهكذا نكتسب القدرة.
- ألقدرة تفرض مثابرة ومتابعة لكلّ مشروع عملنا وخطته، هكذا بالتمرس يصل الإنسان مرحلة بعد مرحلة الى الهدف من هنا ضرورة الصبر، الرجاء، الاتكال على نعمة الله.
ألختام:
قصة بونواتورا ← المسيح عَبَرَ لعندنا وحمل المحبّة والرحمة، العدل والحقّ. ونحن نعبر لعنده عندما نحمل إيماننا ومحبّتنا، عدلنا وحقّنا. وهكذا نعمل مسيرته كما هو بدأها.
آمين.