"اعتبروا دعوتكم، أيها الإخوة والأخوات" (قورنتس 1/ 36) - الأب ميشال ليان

"اعتبروا دعوتكم، أيها الإخوة والأخوات" (قورنتس 1/ 36)

 

كلمات القديس بولس هذه تُوجه اليوم إلى كلّ مِنَّا، نحنُ الذينَ تَجمّعنا وجَلسنا على هذه التلّة، تلة عنّايا، مثلَ التلاميذ الأولين، لنصغي إلى يسوع فلنسمع في الهدوء صوتهُ اللطّيف والمُلّح، لطيفًا مثل جمالِ هذه الأرض المقدسة، ومُلّحًا إذ يفرض علينا الإختيار بين الموت والحياة.

كم من الأجيال من قبلنا سمعت عظة الجبل وتأثرت بها غاية التأثر. كم من الناس عبرَ الأجيال تجمّعت حولَ يسوع، مثل تجمعنا اليوم هنا، لنتعلمَ منه كلماتِ الحياة الأبدية. كم من القلوب انجذبت بقّوة شخصيتهِ وبقوةِ الحقيقةِ المنبعثةِ من رسالته.

الأشخاصُ الأوائل الذين سمِعوا التطويبات من فمِ يسوع حَملوا في قُلوبهم ذكرى جبلٍ آخر، هو جبلَ سيناء، حيثُ كلّمَ الله موسى وأعطاهُ الشريعةَ "مكتوبة باصبع الله" (خروج 31/18) على لوحي الحجر. هذان الجبلان _ سيناء والتطويبات _ يقدّمان لنا خريطة طريقِ حياتنا المسيحّية وملّخص مسؤولياتنا تجاه الله والقريب. الشريعة والتطويبات تحدّدان الطريق لاتباع المسيح، بل هي الطريق الملوكي للنضوج الروحّي وللحرّية.

قد تبدو الوصايا العشر للوهلة الأولى جملة ممنوعات: "لا يكن لك آلهة أخرى... لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور" (خروج 20/3 و13-16). ولكنّها في الواقع في غايةِ الإيجابية. إذا ما تجاوزنا الشّر الذي تذكره، إنها تُهَيّءُ الطريق لشريعة المحبّة التي هي أولى الوصايا وأعظمُها: "أحبب الربّ ألهُكَ بكلّ قلبكَ، بكلِ نفسكَ وبكلِ ذهنكَ... وأحبب قريبك حبكَ لنفسكَ" (متى 22/33-39). وقد قال يسوع أنه لم يأت ليبطل الشريعة بل ليُكمّلها (متى 5/17). رسالتَهُ جديدة، ولكنها لا تَهدم ما كان سابقاً، بل لتُكَمّل ما كان قبلها حتى تَبلغ كمالها. يعلّمنا يسوع أن طريق المحبة تُكمّل الشريعة (غلاطية 5/14) وقد علّم هذه الحقيّقة الخطيرة على جبل التطويبات في الجليل.

طوبى لكم أنتم الفقراء بالروح، أنتم الودعاء والرحماء والنائحين الآن، والباحثين عن العدل، وأنقياء القلوب وصانعي السلام، والمضطَهَدين من أجل البرّ. "طوبى لكم" قد تبدو كلمات يسوع غريبة. نعم إنّه لأمرٌ غريبٌ أن يرفع يسوع من شأن من يعتبرهم العالم صغارًا وضعفاء. ومع ذلك فهو يقول لهم "طوبى لكم أنتم الذين يبدو لكم أنكم الخاسرون، فانتم الكاسبون الحقيقيون: لأنكم تكسبون ملكوت الله". عندما يقول ذلك يسوع "الوديع والمتواضع القلب" (متى 11/29) تصبح كلماته تحديًا تقتضي توبة عميقة ومقيمة في الروح، وارتدادًا حاسمًا في القلب.

نحن اليوم، أبناء هذا الجيل نفهمُ جيدًا لماذا يجب أن يكون في القلب توبة وارتداد. لأننا نسمع في داخلنا وحولنا صوتًا آخر، صوتًا مناقضًا يقول خلاف ذلك؛ صوتًا يقول: "طوبى للمتكبّرين والمعنِّفين، والذين ينجحون بكل وسيلةٍ وثمنٍ، والذين لا ضميرَ لهم، والذين لا يرحمونَ ولا يشفقونَ، والذين يسلكونَ طرقًا معوَّجة، ويعملونَ للحربِ لا للسلامِ، والذين يضطّهدون كل من يقف في طريقهم" ويبدو أن هذا الصوت يجد قبولاً في عالم ينتصر فيه العنيف، وينجح فيه صاحب الطُرق المعّوجة. "نعم، يقول صوت الشرّ، هؤلاء هم الذين ينجحون فطوبى لهم".

نحن أبناء عائلة مار شربل نفهم أيضًا جيدًا هذا الكلام لأنه مار شربل قال لريمون في الإختبار الثاني، إذ يقول: "الناس عم بيتعودوا على قيودهم، عم بتخاويهم، وعم بتصير جزء منهم وعم يصير تخليصهم منها صعب".

يسوع يقدّم رسالة ًمختلفة. دعا تلاميذه من قبل وهو اليومَ يدعونا، ودعوته تفرض دائمًا أن نختار بين أمرين يتصارعان في قلوبنا حتّى الآن. علينا أن نختار بين الخير والشّر، بين الحياة والموت. أي صوت سيختار عالم اليوم؟ إذا آمنا بيسوع المسيح هذا يعني أننا نختار الإيمان بما يقول، مهما بدا قوله غريبًا، ويعني أننا نختار رفض صوت الشرير مهما بدا جذابًا وواقعيًا. يقول مار شربل لريمون في الإختبار العاشر "اختار انت دربك بهالدني، وما تخلي دروب الدني هي تختارك، وما تحمل جرار هالعالم اللي بحمّلك ياها بيلهيك وبيتعبك".

يسوع لا ينطقُ فقط بالتطويبات، بل هو يعيش التطويبات؛ بل هو مصدرها ومصدر الحياة الطوباوّية وهو السعادة كلها. إذا نظرتم إليه وتأملتم فيه، فهمتم ما معنى أن يكون الإنسان فقيرًا بالروح، وديعًا ورحيمًا، راضيًا بالحزن هُنيهَة، وملتزمًا ما هو مستقيم، ونقيّ القلب، وصانع السلام وقابلاً للإضطهاد من أجل البّر. ولهذا يحق ليسوع أن يقول: "تعال اتبعني". لا يقول يسوع فقط" "اعمل ما أقول بل "تعالى اتبعني".

نحنُ نسمع صوتَهُ ونؤمنُ بما يقول. ولكن، مثل التلاميذ الأولين على بحيرة طبريا، يجب أن نترك سُفُننا وشِباكَنا: وليس الأمر سهلاً، ولا سيما عندما نواجه مستقبلاً غير أكيد، وتُراودنا التجربة وتَميل بنا الى فقدان الأمل في تراثنا المسيحّي. يجب أن نكون مسيحيّين حقيقيّين أقوياء وهذا أمر يمكن أن يكون فوق طاقتنا في عالم اليوم، إلا أن يسوع لا يقف جانبًا، ولا يتركنا وحدنا لمواجهةِ التحديات. إنه دائمًا معنا ليبدّل ضعفنا الى قوة. لنثق به عندما يقول: "تكفيك نعمتي، فإن القدرة تبلغ الكمال في الضعف" (2قورنتس 12/9).

أمضى التلاميذ وقتًا مع الربّ جاؤوا ليعرفوه ويحبوه، فأحبوه حبًا عميقًا، وقد اكتشفوا معنى ما قاله بطرس مرة ليسوع: "يا ربّ إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك" (يوحنا 6/68). اكتشفوا أن كلمات الحياة الأبديّة هي نفسها كلمات سينا وكلمات التطويبات. وهذه هي الرسالة التي نشروها في كل مكان.

عندَ صعود يسوع الى السماء عَهَد إلى رُسُله برسالةٍ وَوَعدهم وعدًا: "إني أوليتُ كلَ سُلطانٍ في السماءِ والأرضِ فاذهبوا وتلمذوا جميعَ الأمم... وهاءَنذا معكم طوالَ الأيام الى نهايةِ العالم" (متى 28/18-20). منذُ ألفي سنةٍ تقريبًا حمل اتباع يسوع هذه الرسالة. والآن جاء دورنا لنحمِلها، جاء دورنا لنذهب الى العالم ونكرز برسالة الوصايا العشر والتطويبات. عندما يتكلم الله فإنه يكلّم كلّ واحد منّا بأمور خطيرة، ويكلّم شعوب القرن الحادي والعشرين بكلام لا يقل خطورة عنه في القرن الأول. الوصايا العشر والتطويبات تتكلم على الحقيقة والوداعة والنعمة والحرية: وكلّ هذا ضروري لدخول ملكوت الله. والآنَ جاء دورُ كلُّ واحدٍ منّا لنكونَ رُسل الملكوت الأقوياء. مار شربل يذكرنا بهلحقيقة وبهالرسالة بالاختبار السادس لمن يقول: "إصغوا، إفهموا واشهدوا ... الكون كلّو بمسيرة حج صوب قلب الآب، مثل مسيرة الأنهار صوب البحر. ما تقبل تكون خارج هالمسيرة. نقطة الماي اللي خارج النهر ما فيها ابدًا تصبّ بالبحر."

إخوتي الأحباء علينا

 أن نحب الربّ بقلب راضٍ ومنفتح مثل قلب مريم العذراء أم يسوع، التي قالت "ها أنا امة الربّ فليكن لي بحسب قولك" (لوقا 1/38)

أن نحب الربّ مثل القديس شربل ونعيش الوصايا والتطويبات على جبل عنّايا... ونفهم الإختبار الأول: "أن نتسلّح بالمحبة والمحبة بدون حدود وبدون شروط".

أيها الربّ يسوع المسيح علمنا حقيقة الوصايا العشر والتطويبات واجعلنا شهودًا فرحين لحقيقتك ورسلاً راسخين في الإيمان لملكوتك وخاصة عندما يصبح الإنجيل ملزمًا وصعبًا، أنت قوّنا وانصرنا.

آمـيـن

عنّايا 29/08/2014