"سرّ التجسّد" صلب عقيدتنا المسيحية.

Incarnation

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

إذا فهمنا سرّ التجسّد في العمق، فكل الباقي يصبح سهلاً.

ما هو كعقيدة، في الكتاب المقدس، في العهد القديم والعهد الجديد.

أولاً:  كعقيدة اي كتعليم اعطته الكنيسة بوحيٍ من الروح القدس:
يقول القديس بولس "ولما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة"؛ لما بلغ ملء الزمان، أي عندما أصبحت البشرية مستعدة كي تقبل مجد الله ثانية. نحن نعلم أنّه في العهد القديم والخلق القديم تعطّلت العلاقات بين الخالق والبشريّة، بين الخالق والخليفة وفشلت المغامرة الإنقاذية في المرحلة الأولى الذي قام بها ربّنا. إذاً المبادرة الثانية يسمّيها مار بولس "ولما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة"، أي أنّ إبن الله خالق الكون ومحبّ البشر ارتضى أن ينزل من السماء ويأخذ صورة بشر في أحشاء فتاة من بني البشر. بتعبير أوضح إبن الله إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، إتّخذ طبيعتنا البشريّة بملء حقيقتها؛ وليست هذه عملية خارجية ولا تجميلية ولا ديكور ولا شُبّه به، إنما بملء حقيقتها كل الله صار كلّ الإنسان، الطبيعة الإلهية أخذت كلّ الطبيعة البشرية، إبن الله صار جنيناً ونَما وترعرع وصام وجاع ككلّ كائن بشريّ. شيء عظيم جداً، حصرَ نفسه في حشا امرأة، هذه هي العظمة وهنا يقول يوحنا "الكلمة صار بشراً"، صار لحماً، صار جسداً أي أن الخالق صار خليقة في قلب الخليقة وهذه عظمة سرّ التجسّد. إذا، إذا تكلّمتُ لاهوتياً، العيد ليس فقط عيد الميلاد، هو عيد التجسد وعيد البشارة.

في عيد الميلاد، نحن نتلهّى بالمغارة وكل قصص الميلاد وهذه ترجمة لطبعنا الشرقي، نتوقف على الظواهر العاطفية (المغارة الفقر الحيوانات)، ولكن ليس هذا سرّ التجسد ولا لاهوت التجسّد.

سرّ التجسد قد تحقق. وُلِدَ المسيح.

أين ولد؟ ولمَن ولد؟ وكيف ولد؟ وممَنْ ولد؟ هذه عقيدة حددت سنة 451 وأعلن المجمع المسكوني عن أمرين مهمّين:

1) إتّحاد الله بالجسد هو إتّحاد حقيقي ليس إتحاد جزئيّ ولا مرحليّ ولا صوَريّ ولا استتنسابيّ ولا مزاجيّ، الله صار إنساناً، الله الكبير صار صغيراً، الله نزل كي يرفع الإنسان. إذاً، أولاً، أتمنّى أن يصدمنا هذا العيد، صدمة روحية بدلاً من العيش في الروتين والمظاهر الخارجية. (الشجرة، المغارة، الأضواء)، أتركوا هذه المظاهر وفكّروا أنّ الله صار إنساناً، لهذا أنا ماذا اعمل؟ إلى اين أذهب؟ من المهمّ جدّاً أن ننصدم روحياً بهذا الحدث الرهيب. ففي الديانة المسيحيّة هذه هي العجيبة ولا سواها، إنها الأولى والأخيرة ولا تضاهيها أعجوبة ومن الآن ولمدى الزمان. مسيحنا إلهنا صار أنا، "الهوَ" صار أنا، هذا هوَ التجسد هذه هي الأعجوبة.

هذا هو سرّ المستحيل (le mystère de l’impossible) وعندما أتوصل أن أفهم هذا المستحيل، فكل الباقي في المسيحية ثانوي. يقول مار بولس "أنا عارف بمن آمنت" إبن الله وُلِدَ من امرأة والباقي ثانوي. وأنا عندما أفهم التجسّد أفهم الفداء وعندما أفهم الفداء أفهم القيامة وكل هذا مرتبط بسرّ التجسّد، فبدون التجسّد لا شيء في الديانة المسيحيّة. إنها مئة في المئة العجيبة الكبرى وما زالت مستمرّة ولا استطيع أن اعيش موسوميّا هذا الحدث مثل التاجر. إذاً إتّحاد الله بالبشريّة هو إتحاد حقيقيّ وليس شُبِّهَ به.

2) هذا الاتّحاد الإلهي هو إتحاد من نوع خاص، عندما تمتزج الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية يكون الإتحاد خاص، فالطبيعة الإلهية لا تطغى على الطبيعة البشرية، لا تلغيها. إنّه اتّحاد خاص من أجل إنقاذ هذا الإنسان. تبقى الطبيعة الإلهية إلهية والطبيعة البشرية بشريّة. وهذا الإتحاد هو صلب العقيدة، إتحاد تام وكامل بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، وهذا تتميم للكلام الذي قاله يوحنا: الكلمة أي الإله الخالق، صار خليقة، صار بشراً، وأمتزج فيَّ أنا، هذا ما علينا أن ندركه.

المسيح هوَ معاً إله تام وإنسان تام، وهذا يعني أنه بالمسيح يقول مار بولس يحل كلّ ملء اللاهوت، كل ملء الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية. فانّ شخص كلمة الله الأقنوم الثاني باتّخاذه الطبيعة البشريّة، بقيَ إلهاً كما كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد. وصار لنا شريكاً في إختباراتنا البشريّة، لذلك يمكننا القول حقاً أنّ الله تجسّد، وُلد وجاع وعطش وأحبّ وصادق ومات وقام وصعد إلى السماء، في هذا الجسد الذي أخذه من مريم العذراء. وهذا يعني أيضاً انه ليس ليَ خلاص من دون الآخر طالما أنّ الله أخذ جسداً، فاصبحتُ إذاً مرتبطاً بكلّ إنسان عنده جسد، ولا يمكن أن أنال الخلاص وحدي دون الآخر.

اذاً، شرف كبيرٌ أن لدي جسد والشرف الاكبر أن أحمل هذا الجسد وأعتني به، بالمعنى الصحيح. وفي أي وقت أحتقر جسدي ولا أحترم جسد الآخر أكون قد اسأت إلى المسيح مباشرة وإلى سرّ التجسّد مباشرة.

الصفة الأساسية التي اعتمدها يسوع المسيح ليصبح إنساناً هي عملية الإخلاء؛ أخلى ذاته تعرّى عن ذاته الإلهية ليأخذ ذاتنا البشريّة وألخّص بكلام مختصر ومفيد "كان حيث كنا لنكون حيث هو"؛ هذا هوَ السرّ. صار إنساناً لنصبح آلهة، هو نزل لإصعادنا، صغر لأكبر أنا، تأنس كي اتأله. هذه هي العقيدة.

ثانياً: التجسد في الكتاب المقدس

في سفر التكوين:
اول صفحة في أول كلمة "الله خلق الكون بالكلمة" قال فليكن مياه فليكن نور؛ قال ما قاله إنّما قاله بالكلمة. خلقْ العهد القديم تمّ بالكلمة، والخلق الجديد تمّ بالكلمة، ولكن بالمعنى الثاني "في البدء كان الكلمة". اذاً خلقت البشرية القديمة بكلمة من الله، وبكلمة الله التي هي يسوع المسيح وجدت الخليقة الجديدة من خلال التجسّد.

النبي أشعيا:
اهم جملة تنبأ بها أشعيا فيما خصّ ولادة يسوع كرمز (أش 7/14: "ها ان العذراء تحبل وتلد ابناً يدعى إسمه عمانوئيل" هذه النبوءة قيلت 700 سنة قبل ولادة المسيح، وأشار شراح الكتاب المقدّس انّ هذه الصبيّة هي العذراء مريم، والإنجيلي الوحيد الذي أتى على ذكرها هو متّى قائلاً: ليتمّ ما قيل في الربّ في النبيّ، ها أنّ العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمانوئيل.

التجسّد يُشرح بهذه الكلمة "الله معنا" الله اصبح معنا بطريقة حقيقية وواضحة وأصيلة، أما في العهد القديم فقد كان يُرمز إلى الله من خلال موقعين:

- كان حاضراً في الهيكل الذي هو من بناء بشريّ؛

- كان حاضراً في تابوت العهد الذي فيه الوصايا؛

ومع العهد الجديد بَطُلت هذه الرموز وبَطُل هذا الحضور وبدلاَ من أن يكون الحضور رمزياً صار حقيقياً من خلال التجسّد في حشا مريم؛ نحن نقول في طلبة العذراء "يا تابوت العهد" لأن الذي كان رمزاً في العهد القديم لحضور لله، أصبح حقيقة في حشا مريم، والهيكل الحجري البشري الذي كان قبلاً وأخذ بنائه 47 سنة، أتى المسيح ونقضه كلّه وأعطانا هيكله الجديد من خلال التجسّد.

اذاً الإشارة الأولى في اشعيا "ها ان العذراء تحبل وتلد ابناً" تنبأ لنا بالعمانوئيل. وفي إنجيل متى يبدأ بالعمانوئيل من خلال الولادة، الله معنا وآخر جملة في الإنجيل عند متى "وها أنا معكم طول الأزمان" أي العمانوئيل دائماً معنا؛ حضور الله كله محاط بنا من خلال عملية التجسّد.

 النبي ميخا:
انت يا بيت لحم انك الصغيرة ولكن منك يخرج لي من يكون متسلط على إسرائيل... ميخا 5/1-3؛ وفي الواقع تمّت ولادة يسوع في قرية بيت لحم، وتسميَتها تعني بيت لحمو أي بيت الخبز. إذاً ولد يسوع في بيت لحم ليكون طعاماً وغذاءاً لكل الناس ومدى البشرية.

 النبي هوشع والهرب إلى مصر:
متى هو الوحيد الذي أشار إلى هرب يسوع إلى مصر خوفاً من تصفيته جسدياً. يقول هوشع في الفصل11،1 "لما كان اسرائيل صبياً احببته ومن مصر دعوت إبني". مجزرة اطفال بيت لحم.

النبي أرميا:
قال "صوت سمع في الرامي راحيل تبكي على بنيها" وكان هذا الصوت النبوي يتنبأ لحدوث مجزرة الأطفال. بلدة الرامي ما زالت موجودة وراحيل تمثل كل أم فقدت ابنها في هذه المجزرة.

اذاً كوّنّا فكرة، ولكن الشيء الأساسي للحفظ هي الفكرة الاولى في سفر التكوين: الكلمة: من الكلمة في سفر التكوين إلى الكلمة إبن الله والنبوءة الثانية الرائعة من اشعيا 7/ 14 "ها ان العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمانوئيل".

القديس لوقا:
لوقا الوحيد الذي تكلم خارجياً، بالوصف عن ولادة يسوع. نطرح خمسة اسئلة: من ولد؟ اين ولد؟ متى ولد؟ لمن ولد؟ ممن ولد؟ هذا لوقا باختصار ولكن عملية لوقا مميّزة، عندنا ولادتان. لوقا أعطانا صورة مصوّرة، دخل من باب السياسة والاقتصاد ليوصلنا للولادة. كيف دخل من باب السياسة؟ حاكم ولاية سوريا كيرينيوس أصدر أمراً بالاكتتاب (أي تسجيل الضرائب ودفع ما هو متوجب) هذا الأمر سياسي. وشرّاح الكتاب المقدس يقولون إنّ أول شخص أطاعه يسوع وهو في حشا أمّه، هو حاكم ولاية سوريا كيرينويوس، ذهب يسوع مع أمه وأبوه إلى بيت لحم للاكتتاب، أي تسجيل أسمائهم وممتلكاتهم.

دخل من باب السياسية والاقتصاد ليوصلنا إلى الولادة. اذاً:

- من وُلد؟ الذي وُلد هوَ يسوع المخلّص، سُمِّيَ المخلّص رداً على التسمية للقيصر بالمخلّص وقتها، إنّه المخلّص الروحيّ، القيصر في مملكة زمنيّة، وعظمة يسوع في مزود بيت لحم، هذا هو التناقض.

- اين ولد؟ في مدينة داود لأنه من نسل داود.

- متى ولد؟ "اليوم" أي يوم الفجر الجديد، أي آنية الخلاص وتدشين للزمن الجديد الذي بالمسيح أصبح الخلاص حقيقياً حاضراً واضحاً وبمتناول مَن يريد. أصبح الخلاص مطروحاً على الطاولة؛ أتريدونه أم لا؟ عندما قال "اليوم" اي أصبح حاضراً واضحاً حقيقياً ولم يعد رمزياً تابع للعهد القديم، أصبح زمناً جديداً وعهداً جديداً ومنهجيةً جديدةً وملكاً جديداً وملكوتاً جديداً وكياناً جديداً. المسيح لفظ هذه الكلمة "اليوم" ثلاث مرات وقالها لزكا العشار.

قصة زكا العشار طريفة ومهمّة: زكا كان عشاراً يجبي الضرائب وهذه الوظيفة التي حصل عليها كانت تُطرح من قبل المحتلّ الروماني بالمزاد العلني، فدفع زكا وحصل عليها... ولكن في نهاية الأمر عاد زكا لذاته وقال الإنجيلي لوقا "وكان يَسعى أن يرى يسوع"، على رغم النهب والسرقة كان يعمل أعمال صالحة ليغطي خطأه وكان مكروهاً من الناس ولكن في وقت لاحق: "كان يسعى ليرى يسوع"، كم هي مهمّة هذه الجملة، أن أسعى لأرى يسوع المتجسّد. إنّ السعي هو المهمّ. ذهب زكّا ليرى يسوع فوجد إزدحام وهو قصير القامة فلم يستطع أن يراه، لكنه انتصر على الحواجز الماديّة وصعد إلى الشجرة كي يراه، ويسوع كافأه. هذه تسمى نظرة مكافأة ومجازاة، فزكا إنطلق من مجهود صغير، أعطاه يسوع جهوزية وقال له: "سأذهب وآكل عندك" هذه هي المكافأة "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت". فطالما أننا استقبلنا يسوع وعملنا بعض الجهد لرؤية يسوع، فهو سيساعدنا اكثر. وهوَ الذي قال للص اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس".

- لمَن ولد؟ ولد لكم، لا أحد يستطيع أن يستغني عنه، فلا استطيع القول ان سرّ التجسّد لا يعنيني. ولد لكم، ليس للرعاة فقط، ما زالت الولادة مستمرة بالصلاة بالقربان، ولد لكلّ واحد منّا وأقول أنّ عمليّة التجسّد ليست عملية فئوية. إنها تطال كل مخلوق على وجه الأرض، الذين يعرفونه ولا يعرفونه الذين يجهلونه ويتجاهلونه، وُلدَ لكلّ البشريّة.

- ممن ولد؟ ولد من مريم العذراء. إنها امّ يسوع بالجسد، أم إبن الله. إنها الشاهدة ليسوع ولإنجيل يسوع. بدونها لا خلاص إنها المثال الأعظم للإيمان المسيحيّ، عارفة بمن آمنَت، قالت "نعم". التجسّد تمّ بواسطتها، وكما كانت العذراء واسطة بين السماء والأرض، ما زالت العذراء واسطة بين الأرض والسماء.

القديس يوحنا: إنّه الأعمق والأهم مع كل الاشياء التي قيلت. جملة لا سواها "الكلمة صار جسداً وحل فينا". "الكلمة" تكلمنا عنها. إنها إبن الله، الخالق وحياة الناس ونورهم، الكلمة اي الله، اي يسوع، إنه ينبوع الحياة. "صار" أي الله تدخّل في التاريخ البشريّ، تدخّل في الطبيعة البشريّة، في الكيان البشريّ ودشن كياناً جديداً بواسطة حلول هذه الكلمة؛ "صار" أي اصبح إبن الله لحماً او بشراً. وعمليّة يسوع أنه صار بشراً ليست عملية رداء خارجي وليست عملية تعبير وهمي لتدخّل الله، إنّما عملية التجسّد هي التزام من الله تجاه الإنسان واعتناق طبيعة إنسانية معيّنة، من دون التخلّي عن كونه الكلمة، أي امتزج طبعه البشري بطبعنا الإلهي دون أن يتخلّى عن كيانه الإلهي. بالتجسد أخذ جسدي. هنا عظمة الإنسان، عظمة  التجسّد، الله صار مثلي، الله صار لي، الله صار معي، الله صار فيّ، الله صار لأجلي. "صار جسدا"، أخذ كياني البشري كله، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق صار بشراً وتجسّد من مريم العذراء...

مات وقام في هذا الجسد ولا يمكن ان يتخلّى عنه، لأنه التزم بهذا الجسد والتصق فيه. لم يشبّه به بل صار حقيقة جسداً مثلي من مريم العذراء. "سكن بيننا".

التجسد إذاً هو تعبير سياسي رائع، عملية توطين بشري. التوطين الإلهي توطن بشرياً، إنها الكلمة الصحيحة، التجسّد هو فعل توطين بشري من قبل الإله، جعل مبيته فينا وعندنا ولنا، انتقل من وطنه السماوي إلى وطن البشر دون ان يتخلّى عن هوية ألوهيته.

إبن الله هو العمانوئيل سَكَنَ بيننا وصار مثلنا وتشبّه بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة. الله شخصياً توطّن، الله شخصياً بات عندنا. فعل "سكن" في العبري "شاكين" أي حضور الله المتسامي في وسط شعبه. فعل سكن مع مجيء المسيح يدل على مبيت الله الثابت والدائم فيتوّج بتجسّده تاريخ حضور الله في وسط شعبه بعد أن كان رمزاً عبر تابوت العهد. إنّ نتيجة هذا الحضور الإلهي من خلال تجسّد الكلمة، له اثر حسب إنجيل يوحنا "في الذين قبلوه والذين يؤمنون باسمه". الذين قبلوا هذا التجسد وآمنوا حصلوا على معاينة مجد الله، عندما أؤمن أن إبن الله نزل أرى مجده من خلال يسوع المسيح، وإذا رفضته حصلت على الظلمة لأنّ يوحنا يقول "أتى إلى خاصته وخاصته لم تقبله فالذين قبلوه رأوا مجداً"... وما زالت حتى اليوم هذه الكلمة لها تأثيرها عندما اعيش المناولة حقيقة أقول إبن الله أتى وسكن فيّ أنا، أعاين مجد الله في القربان والموجود في قلبي والموجود على المذبح، وهذا نور وحياة لي، لأنّ العهد الجديد بفضل التجسّد يساوي النور والحياة، إذا آمنت حصلت على معاينة مجد الله.

في عرس قانا الجليل انتقل المجد إلى شيء حسّي عندما صنع يسوع أعجوبته الأولى. قال الإنجيليّ "أظهر مجده وآمن به تلاميذه". انتقلت عمليّة المجد من إبن الله المتجسّد إلى الآيات التي يصنعها من خلال أعماله ومن خلال أقواله، لأن ملكوت الله يعبّر عنه بالكلام وبالأعمال، وبما أنّ إنجيل يوحنا مبنيّ على وجهة نظر فصحيّة فهو يُدخلنا في عمليّة المجد من الفصل الأول وكلمة "رأينا مجده". في العهد الجديد حضور الله وقداسته مرتبط بتجسد الكلمة الذي يُظهر مجد الله بطريقة محسوسة. اذاً تجلي الله عبر الإبن المتجسّد تمّ بآيات محسوسة بدءاً من عرس قانا الجليل. وكلمة "مجد" لا تعني الشهرة والسمعة، المجد عند يسوع المتجسد يعني البهاء الإلهي الذي يكشف جلالة وعظمة الكائن الإلهي وقداسته وقدرته.

خلاصة، لهذا عند يوحنا "الكلمة صار جسدا" هو أعجوبة التاريخ والزمن لا مثيل لها ولن يصير لها مثيلاً ثانياً. "الكلمة صار بشرا" هي علامة محبّة الله الذي صار قريباً، ولم نعد نخاف من صورته مثل العهد القديم ولا ندري أين هوَ في الأعالي، لقد اصبح قريباً منّا وملموساً. رأينا مجده سمعته أذننا لمسته أيدينا والكلمة صار بشراً. هو نداء لقبول هذه المحبّة والمشاركة في الحياة الإلهية لأن في الديانة المسيحيّة حركتان، حركة نزولية بالتجسّد الله صار إنساناً، الله دخل في حياة الإنسان وبالقيامة يدخل الإنسان في حياة الله.

وأنا الإنسان اليوم في عائلتي، التزاماتي أو في كهنوتي، في الحالة التي انا فيها كيف سأستفيد من هذه العمليّة، فكيف سأعيش هذه الصدمة في حياتي (الصدمة التي تكلمنا عنها في بداية الحديث) كيف استطيع أن أستغل سرّ التجسّد وأكون إنساناً نفعيّاً له مصلحة من هذه العمليّة التي تمّت منذ الفي سنة. كيف سأعيشها الآن لأنه ليس حدث تاريخي إنه حدث يتردد كلّ يوم طالما المذبح موجود والصليب موجود والقربان.

اعيش سر التجسد بثلاثة وسائل:

1- بتقديس طبعي البشري:

الاتحاد كامل بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية. أنظر إلى نفسي، لدي جسد، وظيفة، حالة، التزامات، طبع، أنانية، حسنات؛ سأعمل لكلّ ما فيَّ فحصاً دقيقاً، بمعنى أنّي سأقول طالما أنّ الطبيعة الإلهية أمتزجت بطبعي والدم الإلهي امتزج بطبعي أصبح علي ان أقدّس طبعي الجسديّ، أفكاري، أعمالي... هذه مسؤولية معنويّة روحيّة ملقاة عليّ. إن الله امتزج في، صار مثلي، فهل يجوز أن أبقى كما أنا؟ هذا سؤال لفحص الضمير. فهل سأحافظ على صورة الله فيَّ؟

وتقديس الطبع البشريّ يمر بأمور مقدسّة كالأسرار والقداس وكلمة الله...

إذاً، عملية التجسّد هي سرّ المستحيل عليّ أن اعمل مجهوداً صغيراً والربّ يباركني، وإذا حملت يوماً الصليب، ومن الضروري وجود الصلبان، فقد تعودنا وتعلّمنا وتربّينا أن نقدم الآلام والمشاكل والجروحات والصلبان التي نحملها ليسوع. فلنستقيد الآن من سرّ التجسّد.

2- تقديس المكان الموجود انا فيه:

كل واحد لديه عمل في مكان ما. ولد يسوع في بيت لحم ولم تعد عقارا جغرافيا إنّما اصبحت جغرافية خلاص. من هذه البقعة الجغرافية تقدّست الأرض كلّها... من بيتَ لحم إلى كافة المناطق. فأنظر أنا بنفسي وأرى ضمن نطاقي الضيّق. مكان عملي، كيف اقدس عملي ومهنتي ورسالتي في المكان الذي أنا فيه. بمعنى أن اكون المثل الصالح، اريد ان اشرّف واعظّم الطبع البشري الذي أخذه يسوع منّي وأريد أن أكون امتداداً له، تقديس المكان أي تقديس العمل، أي سأكون الغصن الصلب، الرائحة الطيبة في المكان الذي انا فيه.

3- تقديس الاخوة المسيحيّة

وهي الاهم، تقديس الآخر. تقديس الاخوة. لأن يسوع عندما ولد وأخذ الشكل البشري، ليصبح كل إنسان أخ لي، بأي منطقة كان من العالم، هو أخي شئتُ أم أبيت. وإذا تكلّمنا بلغة الميلاد، لغة التجسّد، كلّ الناس أخوة طالما يسوع أخذَ هذا الشكل. وأعلموا أنّه لا يمكن أن أحصل على الخلاص دون المرور بالآخر. فبقدر ما أكرّم الآخر وأحبه، أحبّ الربّ، وبقدر ما أنبذ الآخر أنبذ الربّ. لا تظنّوا أنّ مضاعفة الصلوات تحل مكان صيانة حقوق الآخر.

في النهاية اتمنى لكم عيداً مباركاً بهذا المعنى المسيحي ونحن كمسيحيين ملتزمين لا ننتظر عيد الميلاد كي نعيّد العيد، أنا أعيش العمانوئيل، حضور ربّي في حياتي دائم، وبقدر ما أنا فرح أكون بحالة العيد.

كلّ الأيام أستطيع أن اعيش هذا الحضور، فبقدر ما أعيش حضور الله في حياتي من خلال الآخر، أكون أعيش العمانوئيل، وأكمّل عمليّة التجسّد التي تمّت منذ ألفي سنة.

أنا إنسان امتداد لعملية التجسّد، وهكذا أصواتنا مع أصوات السماء تنشد سوية "المجد لله في العلى وعلى الارض السلام والرجاء الصالح لبني البشر".

آمين.