" القيامة والدينونة"

Resurrection-and-Judgment

المسيح قام. مع القيامة سوف نتعمّق اليوم في كلام الربّ عن الدينونة.
إن القيامة، وقصة القبر الفارغ هي لأمرٌ مذهل. القبر الفارغ شكّل صدمة للبشريّة.

عندما نتكلم عن القيامة نسأل وبَعد؟ ماذا؟          

إن الإنسان منذ فجر التاريخ عنده خوف من الموت، فالموت مشكلة كل البشر. الكلّ يسأل ماذا بعد الموت؟ نلاحظ في كنائسنا أمرًا مؤسفاً، ففي المناسبات الخاصة كالشعانين والجمعة العظيمة وأحد الفصح، تكتظ الكنائس بالناس ثم يختفون باقي الآحاد والأيام وكأن القيامة مناسبة سنوية إحتفالية.

لو فهمنا ما يَحدث وما هي القيامة، لبَقينا في الكنيسة.

يتعاطى الناس مع القبور وكأنّها النهاية. فقصة القبر الفارغ هزّت البشرية وما زالت. القبر الفارغ جواب على الموت. إن شخصًا في هذا التاريخ مات وقام. وكل حياتنا قائمة على هذا الحدث.

إن لم يقُم يسوع، فنحن في وَهم اليوم، لا لزوم لكل إلتزاماتنا الروحية وجهادنا...

إن حدث القيامة حقيقة، وهو يعني أن عالمنا النهائي ليس هنا. حدث القيامة يقول لنا أنّ هذا العالم ليس عالمنا النهائي. نحن في هذا العالم وهدفنا في عالم الله. نحن نسير إلى عالم آخر حيث المسيح.

والآن على ضوء حدث قيامة يسوع، نطرح السؤال. ماذا بعد الموت. هل هناك دينونة؟ هل هناك عدالة؟ إن للإنسان دائمًا مَيل للعدل، للقضاء، للدينونة. فهو في كيانه يُحبّ العدل، يُحبّ القاضي الصادق الذي يَحكم بالعدل، ويُظهر الخير من الشرّ والحقّ من الباطل. حتى بتعاطينا مع بعض، نُحبّ الحقّ، نُحبّ أن يُعاقَب الخاطئ، في كلّ تفاصيل حياتنا اليومية. ونحن نعتزّ بأنفسنا عندنا نلتزم بالقوانين ونفرح. وهكذا في العالم الآخر، نحن نفرح لفكرة أنّ الله عادل، يَحكم بالحقّ ويَحصَل حقّ البار ويُعاقب الخاطئ. إن أول دينونة كانت قيامة يسوع. قيامته كانت دينونة للذين صلبوه، لتلاميذه، لكلّ مَن لم يفهم، لكلّ من فضّل بارابّاس، لكلّ مَن رفضه وحاكمه .... على ضوء هذه القيامة تصير دينونة العالم. إن الذي سوف يَدين العالم في نهاية الأزمنة هوَ الذي أتى إلى هذا العالم في ملء الزمن ليُخلّصه. نعود إلى الكتاب المقدس: ماذا يقول الربّ يسوع في الإنجيل؟ ننطلق من الله الكلمة. نلاحظ أنّ كلمة جهنم لم تُذكر في كلّ الكتاب المقدّس، إلّا على لسان يسوع. فقد ذكرت كلمة جهنم 11 مرّة على لِسان يسوع، ومرّة في رسالة يعقوب ومرّة في رسائل القديس بطرس.

ما قصة جهنم. هل هناك جهنم؟ هل يَهلك أحد في جهنّم؟ نتأمّل بأمثلة يسوع عن الدينونة،عن الحساب.

مَثَل العذارى، خمس حكيمات وخمس جاهلات ينتظرن العريس يَحملنَ مصابيح الزيت. هؤلاء العذارى مُنتظرات، خمسة مِنهُنّ جديّات وخمسة مُهملات. ويسوع يُركّز على مرحلة الإنتظار. تأخّر العريس، وخلُص زيت الجاهلات، أمّا الحكيمات فقد دَخلنَ إلى بيت العريس.

يسوع هو الذي يتكلّم. أُغلِقَ الباب والجاهلات بَقينَ في الخارج، لَم ينتبهنَ على زيتهنَ، والزيت هو الحياة الإلهية، التي يجب أن تبقى منيرة، التي أخذناها  في المعمودية، وهذه الحياة الإلهية إن لم تُتابع وتُصان في الصلاة والقداس وأعمال الرحمة والمحبة.. تموت وتنطفىء.

مَثل آخر: الوزنات. وزّعَ على الكلّ، واحدًا طَمَرَ وزنته. واخترع أعذارًا... خافَ وطمرَ الحياة الإلهية... فأخذ منه الرب كلّ شيء وبقي خارجاً.

يسوع يقول لنا أن هذه الحياة الإلهية إن لَم نصُنها ونهتمّ بها نفقدها.

مَثل آخر: لعازر والغني. الهُوّة صارت كبيرة لا يستطيع أحد عبورها،  يترجّى الغني الرّب أن  يُرسِل أحد إلى إخوته كي ينجوا من هذا العقاب لكن جواب الربّ واضح، عندهم كل شيء ليعودوا، ليتوبوا ويَخلصوا. ويَتكلّم أيضًا يسوع عن نهاية الأزمنة والفصل بين الخراف والجداء، القمح والزؤان... شيء ينفصل عن شي... وفي مَثل آخر أصعب، يسوع يقول لكَ إذا كانت يدك أو رجلك سبب خطيئة إقطعها أو عينك إقلعها... فالأفضل لكَ أن تدخل ناقصًا إلى الملكوت من أن تدخل نار جهنم.. لماذا اليد والرجل والعين، لأن اليد هي التي تمسك أمور العالم هي امتدّت على ثمرة الخير والشر في  الجنة، العين هي التي ترى وتنظر إلى أمور العالم وتُميّزها فإن كانت مُنيرة أنارت الجسد كلّه، والرِجل هي التي تسير في الطريق وتأخذك على الخير أو الشر في هذا العالم.

يسوع يتكلم. ودائمًا يُجيب تلاميذه على السؤال الذي نطرحه نحن أيضًا. أقليلون هُم الذين يخلصون؟ فيُجيبهم عن الباب الضيق، يُخبرهم أن باب الهلاك واسع... ثم يقول ما لا يقدر عليه البشر يقدر عليه الله. فهو ينظر إلى رغبتنا واجتهادنا... لا نستخف أبدًا بهذا الكلام، فيسوع يعني ما يقوله. وفي نفس الوقت نحن نسأل: هل رحمة الله تسمح بهلاك الناس؟ هذا الموضوع طرحه آباء الكنيسة، منذ القدم إلى اليوم، فمثلاً  في القرن الخامس تكلم اوريجانوس الإسكندري أنّه في النهاية كل العالم تَخلُص... تكلّم عن الترميم أو الإستعادة Apokatastasis،  أي أن الله سيَستعيد كلّ شيء ويُرمّم كلّ شيء حتى الشياطين، وإبليس نفسه سيخلصون. لكن الكنيسة رفضت هذه النظرية، فهي تتناقض مع تعليم يسوع وتؤدي إلى الفتور الروحي واللامبالاة. آباء آخرون، مِثل أوغسطينوس وتوما الأكويني، يقولون العكس تمامًا، يقولون أن قلّة قليلة تخلُص والأكثرية إلى جهنم، وهذا أيضًا كلام صعب وقوي... توما الأكويني ذهبَ إلى أبعد، قال أن تعزية القدّيسين ستكون في عدالة الله التي تأخذ الخطأة الى جهنم. وهذا أيضًا كلام قويّ. فهُم يَرون عدالة الله المُطلقة وكأنّها تعزية وفرح للقديسين.

نعود إلى يسوع. ماذا يعني يسوع بكلامه وأمثلته؟ هناك ثابتتين أكيدتين واضحتين. الأولى: أن الله محبة، ليس فقط أنّ الله يُحبّ، بلّ أن الله هوَ محبة، كيانهُ محبة، دائمًا وفي كلّ وقت محبة.  والثانية، أنّ الإنسان حرّ. وهذه الحرية مقدّسة عند الله. فقد خلقَ الله الإنسان على صورته، حُرّ. وهو حُرٌّ تماماً بالإختيار.  يقول الفيلسوف المسيحي سِي.أَس. لُويس، أن جهنم هي كغرفة يدخل إليها الإنسان يَحبس نفسه فيها بإرادته، والمفتاح من الداخل وليس الله من يَقفله.

من يَحبس نفسه، هو الذي رفض الفرح الإلهي، رفض المشاركة بالوليمة السماوية، رفض خيار الله، وأغلقَ على نفسه خارج الله، قاوَمَ محبّة الله وغفرانه، قاوَمَ خيار تلبية دعوة الله، بحريّته. فإذا بهذه الحرية ومنطق هذه الحريّة نفهم منطق جهنّم.

الخروج عن طبيعة الله جهنم. العيش في البُغض والكراهية، الخروج من مشروع الله، العيش في الخطيئة جهنم. فالخطيئة، في البداية طعمها طيب مغرٍ، لكنها تصبح ألَم ومرارة تهلك الإنسان.

هذا خيار. يسوع يقول لنا اجتهدوا... أدخلوا من الباب الضيّق، باب الهلاك واسع.

تُعلّم الكنيسة أن هناك دينونتين، دينونة خاصة، أي الحضور الفردي أمام الله، ترى حياتك كلّها أمام عينيك، تكتشف نفسك، أين كنت. والدينونة العامة. تُحشَد كلّ الأمم أمامه، دينونة أمام كلّ الناس. البشريّة كلّها سترى. أما الأعظم من كل ذلك هو ما يتكلّم عنه مار بولس في فيليبي، "سيُغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسدِ مجدِه" . يسوع قام بمَجد، بجسد مُمَجّد. وسيُحوّل جسد التواضع الذي نحمله اليوم، سيُحوّله إلى جسد مُمَجّد من مجده... ألا يَستحِق هذا المجد جهدنا، وقبولنا، وانفتاحنا على نعمة الله.

دعوة يسوع لنا، في كل الأمثال، كونوا من الحكيمات، صَلّوا، مارسوا الأسرار، إعملوا أعمال رحمة، إنتبهوا على زيتاتكم، لا تتركوا قناديلكم لتنطفئ... إذا لم تعملوا هذا فأنتم لم تقبلوا الله بإرادتكم، ولم تعملوا بالوزنات كما يجب.

يسوع يُحفّزنا ويُقوّينا ويقول لنا عندكم كلّ المعطيات لتَصِلوا إلى المجد المُعدّ لكُم. نزلَ إلى الزمن ليُخلّصنا ... أمّا إذا رفضناه، فهو لا يقدر أن يصنع معنا أي شيء آخر لقد صنع من أجلنا كل شيء.. لقد نزَلَ، تجسّد، علّمَ، تألّم ،مات وقام لأجلنا ونحن نرفض؟ القيامة خيارنا.

القيامة ليس حدث عابر، فهذا العالم ليس نهائي، هو عبور بين محطتين، هو إنتظار، إسهَر على  زيت مصباحك، إعمل بوزناتك، كُن أميناً لمعموديتك، عِش معموديتك فالمجد ينتظرك . أنت حُرّ.

خلاصة:

الله محبة، رحمنا لدرجة بذلَ نفسه لأجلنا على الصليب، القيامة إحتفال يومي، كلّ يوم المسيح قام. ليس إحتفال مرّة بالسنة. لا خلاص دون عمل وجهد شخصي. فَكّك قيودك، ولا تغرق في الخطيئة، لا تتوهّم وتُوهم وتُضلّ الناس بأن الخلاص سَهل وللجميع هكذا دون جهد. هذا ما يُوهمه الشيطان للناس لكي لا يخلصوا. تعليم يسوع والكنيسة واضح، كل ذرة من ذرات الكون فيها محبة وحياة. لأنّه يُحبنا أعطانا الحرية، ومات لأجلنا لنختار. الحُبّ يُحرّر ولا يُمكن أن تُحِبّ أحد وتُجبره لأن يُحبّكَ. خُلِقنا للمجد، لا ترفضه، عِشهُ بجديّة. إجتهدوا للدخول من الباب الضيق. هذا طبعًا ليس سهلاً، لكن مُمكن مع يسوع. فلنتأمل أكثر بالقيامة بالقبر الفارغ... لولا القبر الفارغ لكانت حياتنا فراغ. إملأ حياتكَ مِن حُبّ الله مِن تعليمِه لكي تلتقي بِهِ في اليوم الأخير وتُحصى مع الخراف... مِن هُنا نختار حياة الصلاة والتأمل وممارسة الأسرار. ونلتزم ونعيشه بملئِه، نُرمّم صورة الله فينا ونتركه يشتغل فينا.

من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل:

"الإنسان الخاطي بساعة الحساب، ما رح يعود يعتل همّ الحساب العسير بقدَر ما رح يخجل قدّام عظمة محبّة الله، هالمحبّة يللي خلَقِت الكون وأعطت الحياة."

 مع ريمون ناضر - نيسان 2016 - سنة الرحمة