قلب يسوع الرحوم

sacred-heart-of-jesus

"قلب يسوع الرحوم"

بعد شهر أيّار المخصّص لتكريم مريم العذراء، يأتي شهر حزيران المخصّص لعبادة قلب يسوع الأقدس. وكما نتذكر في خميس القربان ليلة العشاء الأخير، هكذا في عيد قلب يسوع الفادي نتذكّر يوم الجمعة العظيمة، فهذان التذكاران تدعونا إليهما الكنيسة من بعد عيد القيامة وعيد العنصرة، حيث حصلنا على نعمة حضور يسوع وقوة الروح، وبالتالي نغوص أكثر في موضوع خلاصنا.

أمّا بالنسبة إلى هذا الشهر المبارك وفيه نتكرّس لعبادة قلب يسوع فإنّنا نتأمّل بأيقونة هذا القلب التي فيها نختصر معنى "الحبّ المعطاء"، هذا القلب المملوء ناراً علامة الحبّ المتّقد، والمكلّل بالشوك علامة التضحية الكبرى،  حيث يقود إليها هذا الحبّ. فالحبّ يتوَّج بالعطاء.

يدلّنا قلب يسوع على "الحبّ المعطاء" الذي نجد فيه ميزة الرحمة وهي خصوصيّة هذا القلب، الرحمة تدلّ على تحرّك الأحشاء، هذا الشعور الغرائزي تجاه الآخر وتعاسته (نتذكر ردّة فعل المرأة البغي أمام قرار سليمان الملك في شطر الولد، إذ تحركت أحشاؤها وصرخت أعطوا الولد للمرأة الأخرى ولا تقتلوه). هذا هو معنى "رحيميم" بالعبريّة. أمّا المعنى الآخر الذي تدلّ عليه العبارة، فهوَ "الأمانة في مساعدة الآخر، ليس فقط عن شعور غرائزي بل عن إلتزام بالإيمان، وهذا ما تعبّر عنه الكلمة العبريّة "حِسِد".

أمام هذا الواقع "قلب يسوع الرحوم، في حبّه المعطاء"، سوف نتوقف عند حدثين إنجيليين في السامرة، فيهما يبرز يسوع في قلبه الرحوم، ليدلّ على "معنى الحياة" ويُطلق هذه الحياة إلى الأمام: حدث المرأة السامريّة عند البئر، وحدث السامري الصالح في الفندق، من البئر إلى الفندق، درس الرحمة.

حدث البئر والسامريّة:

لحدث لقاء يسوع مع المرأة السامريّة في إنجيل يوحنا الفصل الرابع غنى روحي لاهوتيّ كبير:

البئر:
إنّه مكان لقاء الأحباء حيث يتمّ إختيار شريك الحياة، وهذا ما نجده في تاريخ الكتاب المقدّس، يعقوب إلتقى براحيل عند البئر (تك29)، إسحق تزوّج امرأته رفقا وكان قد التقاها خادمه عند البئر  (تك44)، وموسى تزوّج سفورة إبنة كاهن مِديَن وكان قد التقاها عند البئر (خروج2) ويسوع هنا، العريس السّماوي يلتقي من خلال هذه المرأة بالشعب السامري ليعيده إلى البيت، ويخطبه إلى الله...

الحياة المادية: المياه:
دار الحديث بين يسوع والمرأة في أول المطاف حول المياه، وهنا يسوع جعل المرأة تُخرج من قلبها كلّ رغباتها الصغيرة، ألا وهي حياتها الماديّة، علاقاتها الدينية والإجتماعية، فعبّرت عن رفضها، وعندها صارت جاهزة أكثر لتتعرّف على ماء الحياة، "لو كنت تعرفين... لسألتِ أنتِ"، ولهذا طلبتُ "أعطني من هذا الماء"، لقد فتح قلبها إلى اللامحدود بعدما خرجت عن رغباتها المحدودة.

الحياة الشخصيّة:
انتهى الحوار، ولم يشرب يسوع من ماء بئر يعقوب ولا المرأة شربت بعد من ماء الحياة. هنا تابع يسوع الحديث لأنّه يريد الوصول إلى الشعب في السامرة. سألها عن زوجها. وهنا المرأة أجابت بصدق وصراحة، وفتحت فأفرغت كلّ خصوصيّتها التي لا تقولها لأحد. وهكذا عندما إعترفت بنقصها صارت جاهزة لتتعرّف على يسوع أكثر. فقالت: "أرى أنّكَ نبيّ"، أي أنّكَ رجل من عند الله. إزدادَت معرفتها به، من سيّد: عبارة لَياقة، إلى نبيّ، عبارة إيمانيّة. وهنا، دخَلَت معه في حديثها إلى الموضوع الروحيّ، لأنّه لا يجيب على هذا الموضوع إلاّ من هو نبيّ، أي رجل الله.

الحياة الروحية:العبادة:
سألت المرأة عن صحّة صلوات السامريين على جبل غريزيم. شرح لها يسوع أن قوّة العبادة هي كامنة في الشخص وليس في الظروف. وهذا ما كان الشعب ينتظره في المسيح الآتي والسامريّون منهم. لذلك سألته: نحن ننتظر المسيح الذي يقول لنا ما تقوله. عندها عرّفها يسوع عن نفسه "أنّه هوَ مَن يكلّمها". وعندها اكتشفت ماء الحياة فتخلّت عن كلّ ما عندها من جرّة وبئر، وذهبت تنادي الجميع لتدلّهم إلى يسوع. لقد شفى يسوع عطشها.

تعلّمنا هذه المرأة:
أن يسوع واقف يقرع من باب قلبه على باب قلبنا، لتدخل رحمته حتى تعطي لحياتنا "المعنى" وهو يسألنا: في حياتكم العادية (التي تشبه دورة تعبئة المياه عند البئر يوميّاً) هل عندي مكان فيها؟ في حياتكم الخاصة هل لي وجود ودَور فيها؟ في عباداتكم وصلواتكم أين حضوري الشخصيّ فيها؟ بهذا يدعونا إلى أن نعطي معنى لكلّ حياتنا.

أن نأخذ كلّ الوقت مع يسوع ونتجاوب مع كلّ مقترحاته فإذا تجاوبنا معه نطوّر علاقتنا به ونتعرّف عليه هو الماء الحيّ الذي ينعش حياتنا ويغيّرها.

أنّه عندما تخلق في قلوبنا الرغبة للأكثر لا نتراجع عنها، فعندما يلمس يسوع جرحنا يولّد فينا هذه الرغبة فنُصبح نحن بدورنا قادرين على تحريك هذه الرغبة في قلوب الآخرين، نصبح مثل هذه المرأة إختصاصيين بالإنسانية. لذا فلا نتأخر في اعترافنا بضعفنا للرب، لأنّه يلمس قلبنا، وعندها يحوّلنا إلى رُسُل رحمة ندلّ الآخرين على رحمته، حتى تتبدّل حياتهم.

حدث السامريّ الصالح والفندق:

في لقائه مع معلّم الشريعة علّم يسوع معنى الخدمة، ففُتِحَ قلب هذا المعلّم على الرحمة، هو يسوع الرحوم. وعلى السؤال من هوَ قريبي أجاب يسوع بخَبَر السامري الصالح الذي فيه لا يعرض جواباً نظرياً، بل وضع أمام المعلم حالة ملموسة فيها حاجة تحتاج إلى حلٍّ عمليّ، وهكذا دلّه بالنهاية إلى الرحمة، إذهب واعمل أنتَ أيضاً مثله." إذا استعرضنا الحادثة، نجد الملاحظات التالية:

"رجل"، لم يذكر يسوع إسمه ولا هويّته، ليقول لنا أن كلّ إنسان مُعرّض لأن يكون هو من يحتاج لأن نقترب منه ليصير قريبنا. لا ميزات خاصة، إنّه أي إنسان بشكل عام.

اللاوي والكاهن، هُما نُخبة الشعب، ولم يتصرّفا بأي خدمة نحو الجريح. فصارَ المنتَظَر الثالث، مَن سيكون إذاً؟ إنّها نوع من الحشريّة المعرفيّة.

جاء سامريّ مسافر عادي: وهنا المفاجأة، وهو الذي صنع الخير للجريح، لأنّه "أشفق عليه"، تحرّكت أحشاؤه وهذا هو مبدأ الرحمة التي ترجمها بكلّ الأفعال التي صنعها.

المُميّز في كلّ هذه الأفعال، هو فِعل "إعتنى به"، والعناية تدلّ على القلب لأنّه من كلّ قلبه إهتمّ به مِثل الأم التي تعتني من كلّ قلبها بإبنها حتى وفي أسوأ حالات الخدمة التي تؤدّيها له.

ماذا يعلّمنا هذا السامري؟

عندما تصبح حاجة الآخرين أولويّة في حياتنا نندفع إلى الخدمة من كلّ قلوبنا، وهذا ما يُعلّمنا إيّاه قلب يسوع الرحوم الذي جعل خلاص البشرية أولويّة ممّا دفعه إلى البذل الكلّي في سبيلنا.

الفندق هو مكان الراحة والإستقرار، وإلى هذا تدعونا الرحمة، أن نخلق هذه الراحة وهذا الإستقرار في حياتنا وفي حياة بعضنا البعض، هذا ما يكلّفنا أفعال العناية بعضنا ببعض.

لم يهتم السامري لأن يكون هو الأول في الخدمة، عندما دفع بالرجل إلى الفندق سَلَّمهُ إلى خدمة صاحب الفندق وهو توارى عن الساحة. ليست الرحمة عملية تنافس في الخدمة، بل بالعكس إنّها فِعل تجرُّد وفِعل تدبير وتنسيق في سبيل خدمة حياة الإنسان، لهذا يتمّ فيها توزيع الأدوار والإنسحاب ليعمل غيرنا دوره، لننجح كلنا في خدمة الحياة.

هذه هي مدرسة "قلب يسوع الرحوم" التي تدلّنا على أن نجعل من قلوبنا واحات رحمة، ومن حياتنا مساحات خدمة، لأجل أن تأخذ حياة كلّ واحد منّا معناها وقيمتها.

من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل:
"الكون كلّو بمسيرة حَجّ صوب قلب الآب، مِتل مسيرة الأنهار صوب البحر. ما تقبل تكون خارج هالمسيرة. نقطة المي اللي خارج النهر ما فيها أبدًا تصِبّ بالبحر."

صلاة:
يا يسوع الوديع والمتواضع القلب: إجعل قلبنا مثل قلبكَ.

أيُّها الإله الأزلي القادر على كل شيء أنظر إلى قلب إبنك والى الوفاء والتسابيح التي قدّمها لعزّتكَ عنّا نحن الخطأة، فاغفر لهم إذ يطلبون رحمتك، وأرضَ عنهم بإسم إبنك سيدنا يسوع المسيح الذي معك يحيا ويملك بوحدة الروح القدس الى دهر الداهرين، آمين.

مع الأب مارون مبارك - حزيران 2016 - سنة الرحمة