تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ

في عالمِ اليوم الذي يعزِّز الكبرياء والغرور وينمِّي الفرديَّة بواسطة التسويق والدعايات التي تدعو إلى المظاهر ووسائل التواصل الإجتماعي والموضة التي تدفع إلى الأضواء والشهرة، يدعونا يسوع أكثر من أي وقت للتعلُّم منه الوداعة وتواضع القلب وهو منطق يسير بعكس إتّجاه العالم.

يدعونا يسوع دائماً للتشبّه به وهذه هي دعوة الله للإنسان لإستعادة صورتهِ البهيَّة التي شوَّهتها الخطيئة. وخطيئةِ الكبرياء هي أمّ الخطايا وجذر كلّ شرّ. الكبرياء هو سبب السقوط، هوَ عندما نستبدل مشيئة الله بمشيئتنا ونضع أنفسنا مكان الله ومن الكبرياء تأتي كلّ الخطايا.

لقد عاش يسوع التواضع في كلّ ما عمل. علَّم التواضع ودعا إليهِ بإستمرار لأنَّ التواضع هوَ المدخل إلى القداسة والحصْن المَنيع ضدَّ الخطيئة وتجارب الشرّير.

إنّ اللهَ متواضع، ويسوع إبن الله وصورتهِ يعكس لنا هذا التواضع وهو على ما يقول مار بولس "لم يحسب مساواته لله غنيمة بل أخلى ذاته آخذاً صورةَ العبد". فَسِرِّ التجسُّد هو قمَّة تواضعِ الله. يسوع يدعونا للإقتداء به بإخلاء ذاتنا والإمتلاء من الله.

فالمتكبّر الممتلىء من ذاته لا يستطيع أن يمتلىء من الله.

إنّ يسوع عندما عاش على أرضنا تميّز بتواضعه الفائق وذلك من خلال:

  1. تركيزه على مشيئة الآب لا مشيئته.
  2. تركيزه على غيره وليس على ذاته.
  3. تركيزه على الخدمة وهو قد جاء ليَخدم لا ليُخدم.

وبتواضعه يتجلّى حبُّه لنا، إنّ المحبَّة لا تتكبَّر ولا تنتفِخ كما قال مار بولس، إنّ الله محبَّة والمحبَّة متواضعة فالمحبّ يتواضع أمام الحبيب ولا يتكبَّر عليه. لا محبَّة حقيقية بدون تواضع. إنّ المتكبِّر يضع الأقنعة لإخفاء داخله ليظهر بمظهر القويّ الذي يؤثّر بمَن حوله من خلال صورة يُظهرها لخداع النّاس وجذبهم إليه ليجعل من نفسهِ محوَر إهتمام النّاس ومرجعهم لخدمته. أمّا المتواضع فهوَ الذي يظهر على حاله كما هو بشفافيّة، قابلاً لذاته، قانعاً بوزناته عاملاً بها كما هي لتحقيق مشيئة الله معتبراً الله هوَ المحور والمرجع وليس هوَ.

لذلك إنّ الله لا يستخدم مجده وعظمته وقوّته للتأثير بالنّاس بلْ يعمل لجذبِ النّاس إلى جوهره الذي هو محبَّة. لذلك أظهر المسيح محبَّة الله وليس جبروتهِ وقوّتهِ وهذا ما لم يفهمه النّاس الذين ينجذبون إلى القوّة والعظمة.

يخبرنا يوحنّا في الرؤيا الفصل 4 و5 عن الأسد من سبطِ يهوذا من أصل داوود الذي غلبَ وهو المستحق أن يفتح السفر ويفكّ الأختام ولكن الذي يظهر هو حمل فيفتح السفر ويفكّ الأختام ويُخضع له كلّ شيء، فالأسد صارَ حملاً.

وإذا تأمَّلنا بالمسيح المصلوب نرى أنَّ قوَّة الله كانت مخفيَّة على الصليب بالمسيح المتألِّم، الذي كان بإمكانه أن ينزل عن الصليب، كما طلب منه البشر ولكن الله يريد إظهار محبّته وليس قوّته. فقوّة الله بمحبّته المختبئة بصورة الضعف.

لا يريد الله أن نخاف قوَّته بل أن ننجذب إلى محبَّتِه وهذا هو كلّ سرِّ التواضع والوداعة. فالمحبَّة الحقيقية تتجلَّى بمحبَّة الضعيف في ضعفه ومنطق العالم يحبّ القوي بقوَّته ويتركهُ بضعفهِ، فهو لا يحبّ إلّا القوّة التي تخدم مصلحته، وهذا ما ظهر عند صلبِ يسوع فتركه تلاميذه الذين لم يُدرِكوا سرَّ تواضع الله، وقد فهمه تماماً مار بولس عندما قال: قوَّتي بضعفي وأستطيع كلّ شيء بالذي يقوِّيني.

فالتواضع هوَ إخضاع القوَّة للمحبَّة وهذا ما يدعونا إليه يسوع. فقد وهبنا الله مواهب مختلفة ووزنات مختلفة، وهو يدعونا إلى وضعها في خدمة المحبّة من خلال تحقيق مشيئة الله لا مشاريعنا الخاصّة.

هذه هي الوداعة والتواضع. فالوديع ليس ضعيفاً أبداً بل هو يضع قوّته في خدمة المحبّة وليس في خدمته الشخصيَّة لفرضها على الآخرين وتطويعهم لخدمته، بل ليخدم هو مشيئة الله من خلال خدمة القريب. من الناحية البشريَّة، التواضع يأتي من الثقة بالنفس وقبول الذات كما هي والسعي للإمتلاء من الله وإخضاع كلّ شيء فينا لمشيئته.

أمّا الكبرياء فهو يأتي من الضعف وعدم الثقة بالذات وإرادة إخفاء الضعف بالقوَّة الظاهرة لفرض الذات بالمظاهر، وهو وهم يزول مع زوال هذه الإستعراضات، لأنّ لا قوَّة  تدوم إلى الأبد إلّا قوَّة الله. ولا بدَّ للمتكبِّر أن يسقط بضعفه ويكون سقوطه عظيماً.

فالوداعة والتواضع إذاً ليسا ضعفاً بل هما قوَّة الله وهذا هو منطق الصليب.

"فمنطق الصليب للهالكين جهالة أمَّا لنا فهو قوَّة الله". من رفع نفسه وُضِع ومن وَضَع نفسه ارتفع... كلُّ جبلٍ ينخفض وكلُّ وادٍ يرتفع... هذا هو منطق الله الذي يدعونا لأن نكون كالأطفال في تواضعنا ووداعتنا، لنكون العظماء في ملكوت السماوات. وقد تجلَّى تواضع يسوع ووداعته ودعوته لنا للتواضع من خلال غسل أرجل تلاميذه ودعوته لنا للقيام بالمثل.

للعمل على التواضع بعض الأفكار:

  1. التنبُّه الدائم إلى طبيعتنا المائتة والزائلة، فحياتنا كالبخار وكالعشب الذي ييبس، فنحن جبْلة تراب فانية مهما عظُمَت قوتنا وزاد جمالنا وكثُرت مواهبنا وثرواتنا، فسيأكلنا الدود وتجرُّنا الحشرات.
  2. الإقرار بضعفنا البشري وإمكانيَّة الخطأ: نقول أشياء سخيفة، نأخذ قرارات خاطئة...
  3. الإقرار بعظمة الله ومحبَّته الفائقة وإخضاع كلّ شيء في حياتنا لمشيئته.
  4. الإقرار بحاجتنا للآخرين: علّمني... ساعدني...
  5. تطوير الخدمة في حياتنا. 

من إختبارات ريمون ناضر مع القديس شربل: 

"تنازل وتخلّى عن الأفكار يللي حَجَبِت صوت الله عنّك...الإصغاء بدون تواضع وإنسحاق مثل الصدى الضايع بالوديان...

 صلاة: يا يسوع الوديع والمتواضع القلب: إجعل قلبنا مثل قلبكَ.

ريمون ناضر – حزيران 2015