"فن التواصل والحوار" مع ريمون ناضر – كانون الأول 2014
التواصل والحوار من أهم الأُسُس التي تُبنى عليها العلاقات الإنسانية.
كلّ سوء تفاهم في العائلات وفي المجتمع سبَبَه النقص في التواصل والحوار.
لدى الإنسان حاجة للتواصل، هو كائن جماعي لا يعيش ولا يكبر وحده، لديه حاجة للآخر لينمو ويكتمل. وهذه ميزة ونعمة عند الإنسان ليست موجودة عند الحيوانات. الإنسان هو الوحيد الذي يتواصل بشكل عقلاني.
في هذا الزمن زمن الميلاد المجيد، زمن تجسد الكلمة، نرى أروع ما عَمَلَ الخالق. أعطى الإنسان نعمة التواصل معه.
فالإنسان بحاجة ماسة للتواصل مع الخالق لينمو بانسانيته. كما هو بحاجة للتواصل الإجتماعي، ففي البيت يتواصل الطفل عاطفيًا مع أمّه وأبيه، يكبر ويكتشف عظمة التواصل مع الخالق الذي بدونه لا ينمو ولا يتّجه نحو الكمال. في التواصل مع الخالق يدخل الإنسان بعمق سرّ الوجود ومعنى الحياة.
يقول القديس بولس، إن الله كلّمنا بطرق عدّة، أولاً عبر الأنبياء، وفي ملء الزمان قرّر الله أن يكلّمنا بالكلمة، بإبنه يسوع. يسوع هو التواصل بيننا وبين الله. وهذا شيء عظيم ومهم جدّا.
في حياتنا اليومية نعيش خبرات عديدة مختلفة، كلّ يوم نتعلّم أمور كثيرة، وأفكار متعدّدة تدخل إلينا، كلّ هذا يُكَوّن الإنسان. إذاً في دماغ الإنسان كلّ شيء، افكار، خبرة عِلم، وفي التواصل بين البشر، بما يعبّر عنه الشخص، يَخرج منه إلى الآخر إلى المتلقّي. وهذا الذي خرج منه يصير في الآخر جزءًا منه، ويساهم في تكوينه.
هكذا الله كلّمنا بالكلمة، تجسّدت وصارت بين البشر، ومَن هو كلمة الله. هوَ "يسوع" هوَ فكر الله، خبرة الله، حبّ الله، قدرة الله... كلّ هذا تجسّد بالكلمة، لكي تصير هذه الكلمة فينا. وهذه نعمة كبيرة، روعة البشرية. أعظم ما حدث في التاريخ، قمّة التواصل بين الله والبشر لكي يبلغ الإنسان كمال إنسانيّته من يسوع الإنسان الكامل، وكمال ألوهيّته من يسوع الإله الكامل.
إذاً بالتواصل نأخذ منّا ونضع في الآخر، وبالعكس. التواصل الصحيح يقوم على البنيان.
كيف كان يسوع يتواصل مع الناس:
مع تلاميذه: مَن يقول الناس أني أنا؟ سألهم، وأجابوه، ثم أعاد وسأل فأجابه بطرس بوحي الروح، وأعطاه تعليم.
تلميذي عمّاوس: إثنان يسيران، يتواصلان مع بعضهما، دخل معهم بحوار. سار معهم، سألهم، وشرح لهم، سمع لهم. وتواصُلْ يسوع مع الناس تقنيّات يعلّمونها اليوم في الجامعات.
عندما سألوه عن الضريبة، أيجوز دفع الضريبة. أجاب بسؤال: لمن هذه الصورة. وفي مثل الأعمى، أتى الأعمى إلى يسوع، ويسوع سأله. لكي يكون انخراط بقلب الحوار مع الأعمى. ونرى مع السامرية حوار رائع، دخل في قلب حياتها وأخدها من الماء التي تروي عطش الأرض إلى عمق الماء الحيّ الذي يطلع من جوف الإنسان.
في امثلة اخرى لم يتكلّم فكان في صَمتِه كلام كثير، مثلاً عند رجم المرأة الخاطئة كتبَ على التراب... وأمثلة أخرى تكلّم بنظراته عندما التقى بطرس في المحاكمة، نظر إليه وفي نظرته تكلّمَ كثيرًا.
وتواصل معهم بالأمثال، فكان في المثل يرسم صورة، هوَ أول من استعمل طرق السمعي والبصري.
إذاً التواصل اليوم حاجة ضرورية للتعلّم والتطوّر والنموّ. فكلّ خبرة نعيشها، كلّ كلمة نسمعها تبنينا، سواء كانت سلبية أم إيجابية. فمهما كانَ الحوار مع الآخر فهو مفيد لنا إن وضعناه في إطار بنيان الذات بحضور الله فينا.
والتواصل لا يكون فقط بالكلمات: هو يرتكز على ثلاثة أمور: سمع 40%، نظر 50% والكلام 10%.
عندما نسمع نفهم أمور كثيرة، من تعابير صوتية، وبالنظر أيضًا نقول نصف الحديث، فهو الأهم في التواصل، العين تتكلّم أكثر من الكلمات.
القديس فرنسيس الأسيزي كان يُرسل تلاميذه للبشارة، ويعلّمهم أن يتكلّموا إن اضطرّوا.
في تواصلنا، عندما نريد نقل فكرة إلى الآخر، فمن المهمّ أن نترجمها بحُسن التعبير أولاً، ثم نرسلها، وننتظر لنتلقّى الجواب. لا نرمي أفكارًا دون الانتباه لإصغاء الآخر واستيعابه.
هذه قواعد التواصل، أرسل وانتظر، دون تسلّط أو فرض افكار على الآخر.
من المهم أن أقبل أن الآخر مختلف عنّي، وإلّا لا حاجة لي للتواصل معه. أنتبه للعقبات، اللغة، الزمان، المكان، العمر... كل هذا يؤثّر على التواصل ويجب أن آخذ الأمور بعين الإعتبار.
فبين السمع والإصغاء فرق كبير، نسمع كثيرًا لكن الإصغاء فنّ، بحاجة لتركيز، بحاجة لنفهم ماذا يريد الآخر. وللإصغاء البنّاء شروط، عليّ أن أنخرط عاطفيّا معه، أشعر به، أضع نفسي مكانه، لكي نصل إلى نتيجة وهي بناء بعضنا بعض.
وفي الإصغاء أيضًا من المهم جدّاً، أن ننزع من أفكارنا كلّ الأحكام المسبقة، تنتظر لا تُقيّم قبل أن ينتهي الآخر من كلامه.
إذًا بين الحوار والمحادثة والمناقشة فرق، فالمحادثة هي تبادل أفكار تصير كلّ يوم وفي كلّ وقت بين الناس، المناقشة هي نقاش حول أفكار في النهاية واحدة منها تربح، هي تبادل أفكار لإقناع الآخر. أمّا الحوار فهو الأهم، هو أساس في حياة الإنسان، هوَ التواصل هدفه التغيير والبناء. الحوار يهدف إلى نتيجة إلى ولادة جديدة، ولكي يكون منتجًا ومثمرًا لا يجب أن يكون فوقي ولا دوني، الحوار البنّاء هو حوار أفقي. الربّ يسوع كان يعلّم بسلطان، أمّا بتعاطيه مع الناس فكان يتواصل بشكلٍ أفقي.
في عالم اليوم تدخل الينا افكار ومعلومات كثيرة، فلنميّز دائمًا بما نحن بحاحة إليه، وما هو صحيح، ومفيد لنا ونهمل الباقي. وفي أحاديثنا، ننتبه الى التفكير جيدّا قبل رمي الكلمات، فالكلمة في غير مكانها تهدم، وننتبه، لطريقة كلامنا بحيث يكون كلّ شيء موزون وواضح. ودائماً علينا ان نتأكد من الآخر، إن كان يفهم ما نريد أن نقول، نسأل، نستوضح ونُصغي بانتباه. ولا نتصرف بردّات فعل قبل أن ينهي الآخر ما يريد قوله، نتمرّن على الاصغاء والانتظار بهدوء وتركيز. وفي محادثاتنا، يستعمل الإنسان الحواس الخمسة فلنحسن استعمالها كلّها للبناء.
كلّ إنسان كائن فريد، وكلّ حوار يجب أن يُبنى على أُسُس المحبّة والصدق، فخارج هاتين الفضيلتين لا ينجح الحوار.
فلنتأمل بهذا المثل: لاعبان يلعبان التنس، كلّ واحد يرمي الطابة للآخر وعليها سؤال أو فكرة، وهكذا يعمل الآخر، سؤال، ثم جواب، فكرة، وفكرة أخرى... ترمى من واحد إلى الآخر وهكذا يصغر المتحاوران وتكبر الطابة، يكبر الهدف، تكبر المحبة والصدق ويُخلَق الإبداع، هذا هو الحوار البناء الصحيح الذي يؤدّي إلى التغيير في العائلة والمجتمع والبشرية.
وكلّ هذا يصير بحضور يسوع الذي إذا غاب يغيب معه كلّ بناء.
في هذا العيد المبارك فلنعود وندخل بحوار مع الله، ليملأنا منه، و ننطلق بحوار مع أخينا الإنسان، مع كلّ شخص نلتقي فيه، نبني فيه حجر من خبرتنا من كلّ ما عندنا، وبالتالي كلّ آخر نلتقي فيه نتركه يبني فينا مدماك، والربّ يعلّي البناء ويكبّره وينمّيه، نأخذ العمق الروحيّ لهذا العيد، نتذكر أنّ يسوع هو الأساس، هو صاحب العيد، هو الساكن في كلّ محتاج، هو من يعلّمنا الانطلاق الى الآخر بغاية الوصول إلى الكمال.
من الإختبارات: "والكلمة جسد مش صوت طاير بالجو. كلّ كلمة بدّك تقولها قصّبها بعقلك، انحتها بروحك، نعّمها بقلبك، نزّلها من تمّك مثل ما بتنَزِّل الحجر مطرحو بالمدماك. والكلمة اللي ما بتبني بلاها. ما تحكي إلاّ وقت اللي بيكون كلامك أعمق وأبلغ من صمتك".
صلاة: يا ربّ لقد كشفتَ لنا أبعاد الإنسان ذلك المخلوق الذي جبلته على صورتك ومثالكَ نطلب إليكَ أن ترسل علينا روحكَ القدّوس... الذي حلّ على العذراء مريم وجعلها والدة المسيح. هذا الروح بعينه فليحلَّ علينا اليوم أفراداً وأزواجاً ويخلق في قلوبنا هذا الإنسان الجديد، هذا المخلوق الذي ينتظر أن يولد فينا، ولْنُرَدّد مع العذراء مريم: "ها أنا أمةُ الربّ، فليكُن لي بحسب قولك...". فالكلمة يصير بشراً ويحلّ فينا، كما حلّ في أحشاء العذراء الطاهرة، ونصبح نحن أيضاً قادرين على أن يولد المسيح في قلوبنا...." آمين. (الأب هنري بولاد اليسوعي، من كتاب نحو حياة أفضل).