فضائل مار شربل

Saint-charbel

من كتاب شربل سكران بالله

وديع صبور
طريق القديس شاذ عن طريق الناس. لذا تحوم حوله الشبهات وتتسلم الألسن دعوى الحكم عليه.
بعض رهبان عنايا ما كانوا ليتورعوا عن ممازحة شربل وغربلة سلوكه احياناً، وامتحان صبره.
"ذات يوم، قال نخله الحسيني في شهادته أمام القضاء، كان الرهبان والعملة يوقدون ناراً في اتون، وكان الأب شربل يعمل معهم. عن للآب روكز أن يمزح فقال: اتفقنا كلنا، بحيث خلص الحطب، ندبك بالنار، كون مستعد." في الحال، جثا الأب شربل وأجاب: "الله يقدرني ع الطاعه." انهال الحاضرون على الأب روكز باللوم، فخجل وأسرع يطلب منه الغفران. أما الأب شربل فأجابه ببساطة: "الله يغفر للكل".
المزاح الرخيص مع القديسين غالباً ما ينقلب على أصحابه! مع أن سلاح هؤلاء القديسين ليس سوى محبة واحترام.
ولكن، من قال أن القديسين لا يعرفون، في الظرف المناسب، ان يملحوا الحديث بنكتة؟
رجلٌ قد أضاع، ذات يوم، "ضبوة" تبغ وأخذ بالبحث عنها. قال له بعض الرهبان مداعبين: "ضبوتك أخدا هالراهب العم ينكش بالحوش. اسمو بونا شربل." أسرع الرجل إلى الأب شربل وقال بحدة: "عطيني الضبوي، انت سرقتا. الرهبان شافوك."
بعد تفكير قصير، أجابه الأب شربل:
"شايف هالصخر، بآخر الحوش؟ هادا لو زمان هون وما حدا سرقو!"
كان ذلك يعني أن شخصاً له عادة التدخين يمكنه، دون سواه، أن يسرق "ضبوة" تبغ... حينئذٍ فهم الرجل أنه كان مخدوعاً، فاعتذر.
"عاشرت الأب شربل سنتين، يقول الأب إبراهيم الحصروني، ولم أره أبداً محتداً ولا آنست منه أدنى تذمر على الإطلاق. مهما يرد عليه من الله أو من البشر يقتبله بصبر وسكينة. وكان مبتلياً بداء القولنج، ربما المغص الكلوي، فينتابه متواتراً ولا يستعمل له أي علاج، بل كان يتحمل مضض آلامه بصبر عجيب مجتهداً في إخفاء ألمه هذا عن ناظريه.
وكنت مرة أفلح في كرم المحبسة، وكان الأب شربل يعمل معي. عند الضحى آنست منه تململاً خفياً فسألت الأب مكاريوس عنه، فقال لي: قد انتابه دور المغص، فشفقت عليه وتقدمت إليه ارجوه أن  يرتاح فأبى أن يغادرنا، بل ثبت معنا سحابة النهار مكباً على العمل باجتهاد زائد كأنه ناعم بتمام العافية.
ولما باشرنا طعام الغداء، قلت للأب مكاريوس:
- عيط لبونا شربل يجي ياكل معنا، حرام.
- بعدان يبقى ياكل وحدو.
عند الأصيل أطلقنا البقر ترعى. وتوجهت إلى حيث كان إبريق الماء لاشرب. فرأيت الأب شربل الحبيس يأكل ضلوع الفرفحين المتروكة منا وهي توازي أقلام الرصاص ثخانة. اغرورقت عيناي بالدموع من هذا المنظر، وانحيت باللائمة على الأب مكاريوس قائلاً له:
- حرام عليك تتركو ياكل ضلاع الفرفحين. شي بيوجع القلب!
- هيدي عادتو، هيك بيحب ياكل مبسوط. تركو يدبر حالو.
وقد عاينته مرة ينقل القندول من أسفل الحرج إلى جفافي الكرم، حاملاً على ظهره حملة ثقيلة جداً ويصعد بها إلى المحبسة. فأخذتني هزة الإشفاق وقلت:
- عجيب هالختيار، شو عندو صبر، غريب هالكاهن قديشو وديع وجلود !"
  كم هي بليغة صادقة كلمة سفر الأمثال: "الطويل الأناة خير من الجبار والذي يسود على روحه أفضل ممن يأخذ المدن" (16:32)!

صامت
يشدد القانون على أهمية الصمت في الحياة الرهبانية: يجب على الراهب أن يلازم السكوت بإفراز. عليه حفظ الصمت المطلق من صلاة الستار (1) إلى صلاة الثالثة، (2)، وفي الكنيسة، وعلى المائدة (3).
القانون يدعو الرهبان إلى لزوم ما يسميه مار مبارك بكلمة بليغة، "جلال الصمت". الصمت هو الوسيلة الفضلى التي استخدمها شربل لضمانة تغذية روحه بالتأمل العقلي والاتحاد بالله. كان على يقين من أن العزلة لا تكون حقيقية الا مغمورةً بالسكون والصمت. فالضجة تبلبل جو التخشع الباطني وانسحاق القلب. نقض السكوت لدافع غير محبة الله أو القريب ينافي، في نظر شربل، الاتحاد الحميم بالله ويبدد عرف زيارة المسيح في مناولة الصباح.
قال معاصر لشربل لرفيق له:
- إن الصمت في فمه مستمد من فيض مناجاة الله في قلبه.
- عقله، اجاب الآخر، مسلطٌ على لسانه، وهو عقلٌ سكرانُ بالله، فكيف لا يولع لسانه بالصمت؟
وراح رفيق ثالث يرد عليهما:
- لا يعجبني كثيراً صمته البليغ. مراراً حاولت أن أصرح له برأيي وأحجمت، كأن أقول له:"أنت انسان ناطق لا بهيمة عجماء أو صخرة صماء!" ما تراه يجيب لو فعلت؟
- يركع مستغفراً كأنه مذنب يستوجب العقاب. بل هيام شربل بالصمت، علاوة على كونه فريضة قانونية، كان منشأه التعقل وسلامة الطوية، وكان مقروناً بالبساطة والفطنة "والإفراز"، بعيداً عن روح التشاؤم والأنانية والتطير.
كتاب الإقتداء بالمسيح، كتاب شربل المفضل، يقول:"في السكوت والهدوء تكتسب النفس تقدماً عظيماً، وتكتشف معنى الأسفار الإلهية الخفي" (1، 20).
كانت العذراء في الناصرة، بسكوتها وتأملها في سر ابنها، تشاركه في خلاص العالم. كل صومعة بجوار كل دير كانت "ناصرة" تتأمل فيها النفوس العذارى سرَّ الخلاص وتفتدي العالم بالاتحاد مع المسيح ومع أمه الإلهية.
عبقرية شربل الصامت تحليق جناح في أجواء الروح حيث لا قول ولا لغة سوى الكلمة التي كانت في البدء، والتي كانت هي الله.
 
أمثولة في بطولة الصمت
رسالة الأب شربل كرازة وتعليم، ولكن ليس بالكتابة والأقوال، بل بالمثل والأعمال. روحانيته لا تقوم على الوعظ والتبشير، بل على قيمة حياتية. طاقة إنجيلية ذرّاتها فضائل، ولغتها أفعال خفية، أُعطي لها، في عين الله، إن تحوّر بصمتها في نواميس الوجود.
روى لنا الطيب الذكر الاباتي يوحنا العنداري، رئيس الرهبانية العام سابقاً، الحادث التالي:
"كنت لم أزل اخاً دارساً حين سعدت بزيارة الأب شربل في المحبسة. حالما رآني أتى إلي بلطف، ودعاني إلى الجلوس ومضى. وبعد لحظات عاد وفي يده كتاب مفتوح، دفعه إلي طالباً أن أقرأ بصوت عال. كان الكتاب سيرة حياة مار أنطونيوس الكبير. قرأت فصلا منه، ولما انتهيت، استرجع الأب شربل الكتاب وانصرف. تلك كانت طريقته في استقبال الرهبان."
ليس بينه وبين زائره شيءٌ أعلى وأجدى من توسط شخصٍ آخر، قديسٍ كبير، يكون لكليهما مثالاً أعلى. لم يوجه أيَّ سؤال. لم يُرد أن يعرف شيئاً عن الرهبانية وعن البلاد، وعن العالم. كان قد أصبح  نفساً حديثها مع الأزل. هذا السكوت المستمر، من أجل الله، إزاء المهام الدنيوية جميعاً، لفيه من العظمة والصمود ما يفوق إرادة الأبطال، ويوقف الملائكة أمام جلاله خاشعين.

تواضع
على بطل الروح أن يُغرق عظمة جهاده في خضم الوداعة واللطف، لأن بهاء الفضيلة لا يستسلم لأبناء العنف، بل لروح المتواضعين، روح الطفولة التي جعلها المسيح شرطاً لدخول ملكوته:"إن لم ترجعوا فتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى18، 3-4).
متواضع كطفل صغير؟ هذا شربل في عمق أعماقه. يعتقد عن إخلاص ومن قرارة وجدانه أنه أحقر البشر! من هذه الأعماق يتفجر ينبوع طاعته للجميع حتى لخدم الدير. هنا، أيضاً، سبب رغبته في تناول فضلةِ طعام الرهبان، وعلةُ انشراحه لطلب الغفران عن هفوات لم يقترفها.
روى الأخ جواد الحادث التالي:
"كنت افلح في كرم الدير، وكان الأب شربل ينحي الدوالي عن طريقي لئلا تدوسها الثيران. وكان أن ثوراً كسر إحداها على الرغم من جهوده. غضب الأب مكاريوس وقال للحبيس:"ولو ! هيك بتخلي الفدان يكسرا، شو عم تعمل؟" خر الأب شربل على ركبتيه، وضم ذراعيه إلى صدره، وقال:"غفرلي منشان المسيح!"

اختطاف
ما كانت تقشفات الأب شربل جميعاً لتصده عن مهمته الجوهرية وهدفه الأمثل: التأمل العقلي ومناجاة الله في خلوة الباطن. هو إنسان مولع بالتأمل في كمالات الله وحقائق الأزل. هو راهب يبتغي الكمال، فيروح يرسم في نفسه صورة المسيح، بانتباه المصور الماهر المتروي المطيل النظر. هو حبيس ليتحدث بالحكمة في عقله، يستحضر الله ليشكره ويمجده ويلتمس منه، بتواضع ونشاط واحترام، ان تكمل مشيئته على الأرض كما في السماء.
اتحاد بالله مستمر بلغ به إلى ما يسميه آباء الروح "السهوَ بالله" أو الاختطاف به اختطافاً كاد يرتفع عن الشعور بالمرئيات واحداث الزمن.
لكأنه أصبح، كما نقول في الصلاة، إنسانا غير هيولي.
"كنت تظنه، شهد الأخ الياس المهريني، عائشاً في عالم الأبد !"
ربما تشرّب حضور الله إحساس هذا الناسك كما تتشرب الظهيرة قطرات الانداء أو كما تغيب الخمرة انتباه نشوان تجاوز حدود الثمل.
نحن في شهر كانون الثاني آونة ترى صومعة عنايا تتألق في مجد من البروق والرعود. هوذا الأب شربل ساجد في الكنيسة، غارق في تأمله أمام القربان الأقدس، عندما تنقض صاعقة بلهاء على الكنيسة فتحدث فجوة في السطح، وتهدم زاوية المذبح مجتازةً إلى الخارج، محرقة ذيل ثوب الحبيس. ما باله لم يتزحزح؟ ما زال ممعناً في صلاته لا يبالي. بينما رفيقاه، الأب مكاريوس والأخ نعمة الله، قد أُغمي عليهما لشدة رائحة غريبة نشرتها الصاعقة (1).
وينتبه الأب مكاريوس مسرعاً إلى الكنيسة ليرى ما حلّ بالأب شربل. ولدى ولوجه هتف مدهوشاً:
- يا حسرتي، نهدّ المدبح!
- يه يه ! صرخ الأخ فرنسيس، قولك بونا شربل بو شي؟ الدخان طالع منو، ومش عم يتحرك!
وإذا بالأب شربل يستفيق كمنْ حلم عميق.
انقضاض الصاعقة كان لديه أشبه بصوت جرس قديم يدق نصف الليل، فيدغدغ آذان الملهمين كأنه نسيم المساء البليل على المروج الخضراء.
كان حبيسنا قد بلغ إلى الحالة النفسانية التي يسميها صوفيو التنسك "الثيوريا"، حيث يصمت القلب وتهدأ الأفكار، مسغرقةً في لاوعيٍ ذاتي، هو تمام الوعي، يجعل الإنسان أشبه بالروح المجردة منه بكائن ذي جسد من تراب.